الأربعاء، 22 يونيو 2011

الاب بيو



حياة الاب بيو:
ولد القدّيس بيّو في بيترلشينا (بنفينتو) سنة 1887 من اورازيو فورجونيه وجوزبّا دي نونزيو. كان اسمه في المعموديّة فرنسيس. دخل في الخامسة عشرة من عمره إلى دير الآباء الكبوشيين في موركونيه (بنفينتو) حيث لبس الثوب الرهباني في 22 كانون الثاني سنة 1903. سيم كاهناً في 10 آب 1910 في كاتدرائية بنفينتو. ولأسباب صحّية أرغم على المكوث بضع سنوات في قريته.
في شهر شباط سنة 1916، انتقل الى دير “القديسة حنّة” في فوجّا وفي 28 تموز صعد إلى دير مار يوحنا روتوندو حيث مكث هناك، ولم يبارحه الا لفترات قصيرة ونادرة. صباح نهار الجمعة في 20 أيلول 1918 وبينما كان يصلّي أمام المصلوب في خورس الكنيسة الصغيرة القديمة، حصل على نعمة سِمات سيدنا يسوع المسيح التي احتفظ بها طيلة خمسين سنة حتى وفاته في 23 أيلول 1968.
لقد مارس خدمته الكهنوتيّة بكل غيرة، فأسّس “جماعات الصلاة” ومستشفى “بيت التخفيف من الألم”.

من اعماله:
تأسيس جماعات الصلاة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم.
تأسيس مستشفى “تخفيف الآلام” ويُعدّ من أكبر دور الاستشفاء في اوروبا.
من اقواله:
“اذا كنت في حالة ألم أو راحة،
حزن أو فرح،
اذا كنت متوحداً او مع الجماعة،
لا تنسَ أنّ الله يحبّك،
يساعدك ويقف إلى جانبك.
أحبّه أنت أيضاً.
تشجّع! فيسوع يعتني بكلّ شيء”.
(القديس بيّو)

وألان نأتي إلى الروابط للافلام الوثائقية :
Padre Pio vivo
الاول و الثاني و الثالث

بوبو و الاسد

فيرا الصغيرة والثورة الروسية

كانت كلمة "ثورة" مربكة لفيروتشكا (فيرا الصغيرة). كيف لها أن تفهمها وهي ابنة ثماني سنوات؟ فقد صارت الحياة مخيفة منذ بدأت تسمع هذه الكلمة. في الليل، صار باب منزلهم الصغير، في ضواحي كازان، يُغلَق بإحكام بمزلاج ثقيل، فيما يُثبَّت المصراعان جيداً وينام دروشوك كلب الحراسة قربه. رسمت المربية العجوز صليبها وهمست "فليحفظنا الله ويرحمنا!".

كم يكون الأمر جميلاً لو أن ابي ما زال معنا، فكّرت فيروتشكا. لكن أباها قُتل في الحرب، وأمها لم تعد كما كانت، كل النهار تعمل، انها تعطي دروساً في الموسيقى، وعندما تعود في المساء إلى البيت، تحضِر معها قليلا من الطعام. كما أنها دائماً تهمس شيئاً ما للمربية. منذ أن صُرِفَت الخادمة، صارت الأم والمربية تعملان كل شيء بنفسهما، وأحياناً تعملانه بشكل غريب. فالأم تخبّئ سلة الغسيل تحت السرير، لكن المربية دائماً تجدها، وعندما تعود الأم إلى البيت يكون كل شيء نظيفاً ومكوياً. المربية عجوز منحنية ومتغضنة الوجه لكنها في حال جيدة. وهي كانت مربية الأم أيضاً.

لم تعد فيروتشكا تذهب إلى المدرسة لكن الأم ساعدتها في الدروس. وهكذا عشن لوقت طويل، الأم تعمل فيما فيرا الصغيرة والمربية تحفظان البيت. لم يعد هناك كعك في الآحاد، وبالكاد يبقي هناك سكّر. شرابهن صار شاي توت العليق. طعمه جيد مع أنه ليس حلواً، لكنه "مفيد للصحة"، كما قالت المربية.

في أحد الأيام، عادت الأم باكراً إلى المنزل، وجلست مقطوعة الأنفاس، وقالت "ثوار البولشفيك يتقدمون". فصرخت المربية ورسمت صليبها. "أهُم طوال القامة؟"، سألت الفتاة الصغيرة. "مَن هم؟"، فقالت الفتاة: "البولشفيك الذين يتقدمون". ابتسمت الأم بكآبة وقالت: "لا يا فيروتشكا، ليسوا كباراً في القامة لكن مكرهم عظيم!" أرادت فيروتشكا أن تطرح أسئلة أخرى لكن الأم كانت قد بدأت بحزم الأمتعة.

ساعدت المربية الأم في حزم الأشياء الضرورية، لكن من دون أي شيء لها، لأن الأم وفيرا الصغيرة فقط كانتا مسافرتين، فسألتها فيرا "لماذا لا تحزمين أغراضَك، أيتها المربية، ألستِ ذاهبة مع امي؟" أجابت المربية: "سوف أبقى مع دروشوك. سوف نحرس المنزل. أنا أكثر شيخوخة من أن أهرب." ثم أضافَت: "أنا عجوز، لن يؤذيني أحد".

"نهرب؟ لماذا نهرب؟" أرادت فيرا الصغيرة أن تسأل، لكنها أحسّت برقتها الطفولية، أن عليها ألاّ تزعج أمّها ومربيتها بالأسئلة. حتى حَزم الاغراض كان غريباً جداً. لم تُوضَع الأغراض في حقائب بل في أغطية وسائد مصنوعة من الكتان وما أن تمتلئ إحداها حتى تضعها الأم والمربية في جوال بطاطس وتربطان الطرف بسلك سميك. وكانت الأم بين الحين والآخر تدير وجهها وتمسح زوايا عينيها، وكذلك المربية. أرادت فيرا الصغيرة أن تبكي لكنها ضبطت نفسها. أنجِز حَزم الاغراض بسرعة وحان الوقت للانطلاق.

ركعت الأم أمام المربية وهي تبكي بمرارة، فيما بدا وجه المربية وقوراً جداً وكئيباً. أخذت من رقبتها خيطاً من الحرير وحرّرت منه أيقونة عذراء كازان ووضعتها في خيط آخر. ثم باركت الأم بالأيقونة ووضعتها حول عنقها. ركعت فيرا الصغيرة أيضاً وباركتها المربية بأيقونة القديس نيقولاوس التي كانت تضعها منذ كانت فتاة صغيرة: "فلتخلصكما والدة الإله والقديس نيقولاوس من كل سوء. لن تخافا في طريقكما"، قالت المربية فجأة بعد أن عادت إلى ما كانت عليه عادة مع ابتسامتها الفاتنة.

لبست الأم والمربية معطفيهما وقبلت كل منهما يد الأخرى ثم عانقت المربية فيرا الصغيرة وقالت: "لنجلس الآن قليلاً قبل الرحيل". جلستا للحظة في غرفة الرسم ثم وقفتا، رسمتا إشارة الصليب وخرجتا إلى الشرفة. ساعدت المربية الأم في تعليق الكيسين على كتفيها.

كان الناس يزحفون في الشارع حاملين أكياساً أيضاً. بحثت فيرا الصغيرة عن مركبة ظانّة أنهما سوف تركبان لكنّها لم ترَ شيئاً. أخذت الأم فيرا بيدها ومضتا من دون النظر إلى الوراء. لكن فيرا استمرت في النظر إلى المربية إلى أن وصلتا إلى الزاوية. بقيت المربية واقفة على الشرفة وهي ترسم عليهما إشارة الصليب فيما وقف دروشوك إلى جانبها هازّاً ذنبه بحزن.

عند كل تقاطع شارع كان ينضم إليهما مرافقون من الراحلين، وعندما صارتا خارج المدينة كان يحيط بهما جمع غفير. كان هناك الكثيرون ممن تعرفهم الأم. كان وجهها حزيناً ومتجهماً، لكن فيرا الصغيرة كانت تجد كل شيء جديداً ومثيراً للاهتمام، وقد افتكرت في نفسها "وكأننا ذاهبون إلى نزهة في الخلاء". واستمر الناس في السير.

في النهاية تعبت رجلا فيرا فحملها "العم" على كتفيه كما كان يفعل والدها. شكرته الأم بحرارة. لا أستطيع أن أشرح كم مشت فيرا وأمّها. من ثم كان عليهما أن تركبا في عربة صغيرة تُجَرّ باليد، ومن بعدها في مقطورة الماشية على السكة الحديدية. لقد كانتا دائماً جائعتين وباردتين. صارت ثيابهما بالية ووسخة. قصّت الأم شعرها، وشعر فيرا ايضاً، بعدما رأت القمل يسرح منهما فيما أحستا بالحكاك في كل جسديهما. أحسّت فيرا الصغيرة بالتعب والخوف لكنّها لم تتذمَّر لأن عيني الأم كانتا حزينتين جداً.
 
أخيراً وصلت موجة اللاجئين إلى هاربين. نزلت الأم وفيرا من القطار ووقفتا بائستين على الرصيف. من ثم طُلب من الناس الوقوف في الصف وأتت سيدة أنيقة إليهما وتحدثت إلى الأم فأخذتهما في عربة إلى أحد البيوت. هناك أُعطيَتا غرفة صغيرة. أخبرت الأم فيرا أنها سوف تعمل كخادمة نهارية بمقابل الغرفة، وأنهم وعدوها بأن يعطوها عملاً آخراً لتحصّل ما يكفي لمعيشتهما. الغرفة كانت صغيرة جداً وقد رقدتا الإثنتان على تخت ضيّق، لكن بعد كل ما تكبدتا من الصعاب وجدتاه مريحاً جداً. كما أُعطيتا بعض الثياب التي أعادت الأم تجديدها.

بعد هذا بقليل أرسلَت الأمُ فيرا إلى مدرسة إعدادية فيما هي استمرت في عملها. أخذت فيرا كتبها بشوق وقد ربحت جائزة. هنّأتها الأم وقالت لها: "الآن سوف أرسلك إلى خيّاطة لتتعلّمي الخياطَة وتكسبي مالاً أكثر". فأجفلت فيرا وسألت أمها: "لكن يا أمي ألا ينبغي أن أذهب إلى المدرسة؟" فأجابت الأم بأسى: "أيتها الفتاة البائسة، كيف لنا أن نحلم بمدرسة؟ ينبغي أن يكون معنا المال لدفع رسوم التعليم والكتب والثياب والبذلة. من أين لنا هذا؟ أنا بالكاد أجني ما يكفي خبزنا اليومي". وراحت الأم تبكي، فندمت فيرا على سؤالها. ثم قالت لأمها: "لا تبكي يا أمّي سوف أقوم بكل ما تريدينني أن أفعله"، محاوِلَةً أن تؤاسيها.  
في ذلك المساء، عندما جلست الأم بجانب القنديل تخيط، نظرت فيرا مجدداً إلى جائزتها. قبل أن تذهب إلى السرير رسمت إشارة الصليب أمام أيقونة القديس نيقولاوس التي أعطتها إياها المربية وقبّلَتها، كما كانت تفعل دائماً. في تلك اللحظة أتتها فكرة. ابتسمت ثم غفت وهي تبتسم.
 
في الصباح استيقظت مبتهجة، شربت الشاي، وطلبت من أمّها بعض المال. وبما أنها لم تكن قد سبق لها أن طلبت من أمها مالاً، أعطتها أمُّها قطعة نقدية بسرور، من دون حتى أن تسألها عن ما كانت تريد أن تفعله بها. ركضت فيرا إلى أقرب محل واشترت ورقة وغلافاً، ولفّت الباقي من المال في منديل. عندما عادت إلى البيت كانت الأم قد ذهبت إلى العمل. جلست فيرا إلى الطاولة الوحيدة التي كانت عندهما، أخذت قلمها وكتبت رسالة إلى القديس نيقولاوس الصانع العجائب:
"عزيزي نيقولاوس الصانع العجائب، أرجوك ساعدني للدخول إلى المدرسة. أعِدُك بأن أتعلّم جيداً وعندما أكبَر أساعد أمّي. أرجوك استجِب لصلاتي.
المُحِبَّة
فيروتشكا أمورسوفا"

وكتبت عنوانها على وجه الورقة، ثم ذهبَت والرسالة في يدها إلى محطة القطار حيث كانت قد وصلت مع أمها في البداية وحيث كانتا تذهبان غالباً لتصليّا وتضيئا شمعة أمام أيقونة القديس نيقولاوس العجائبية. هنا اعتادتا أن تصليّا من أجل الجميع وخاصةً من أجل المربية العجوز. اشترت فيرا الصغيرة شمعة وصلّت بحرارة إلى القديس ووضعت رسالتها في صندوق التبرعات الذي كان يبدو مثل صندوق البريد.

مشت فيرا ببطء إلى البيت وهي تحسّ بداخلها بالفرح الصامت الذي ينزل في القلب بعد الصلاة الصادقة.

أتى جواب القديس بسرعة. إذ قرّرت الأم في أحد الأيام أن تحتفل بانتهاء فيرا من المدرسة مع جائزة، فخبزَت لها فطيرة عند الجيران. وما أن جلستا لشرب الشاي حتى قُرِع الباب. راحت فيرا لتفتح وهي تظنّ أن القارع من الجيران، لكنّها وقفت منذهلة لإيجادها سيدتين أنيقتين، الأولى متقدمة في السن فيما الثانية أصغر.

"هل تسكن هنا فيروتشكا أمورسوفا؟" فأجابت الأم "نعم، تفضّلا". فدخلت السيدتان مبتسمتين وسألتا الأم بطريقة ودية عن حياتها وعملها وماضيها. من ثم بدأتا تسألان أسئلة عن فيروتشكا. أجابت الأم وهي مستغربة. فأخبرتهما أن الفتاة أنهت المدرسة ونالت مكافأة، ومن ثمّ عرضت عليهما شرب الشاي معهما. قبلت السيدة المتقدمة في السن الدعوة بشكر، لكنها قالت أنها تريد أن تشرح سبب مجيئهما. أخذت رسالة من حقيبة يدها وأعطتها للأم. قرأتها الأم لوقت طويل لكنها لم تفهم شيئاً فيما أطراف أصابعها كانت ترتجف. في هذا الوقت أخذت السيدة الشابة فيرا جانباً وقالت لها: "لقد استلم القديس نيقولاوس رسالتك وأرسلها إلينا مع الطلب بأن تهتم به لجنتنا... وسوف نرى كيف تحققين ما طلبته وبالطريقة المناسبة".

أخبرت السيدة المتقدمة في السن الأم كيف وجدت رسالة فيروتشكا في صندوق التبرعات الذي تهتم به جمعيتهما، وكيف قررت الجمعية بالإجماع أن تحقق صلاة فيرا الصغيرة التي أوحى لها بها القديس نفسه. هتفت الأم "هذا بسبب صلوات المربية. لقد باركت ابنتي بأيقونة القديس نيقولاوس التي كانت لها. لقد كانت تعلقها دائماً، والآن أتى القديس ليساعدها".
فقالت السيدة الأكبر سنّاً بمرح: "الآن حسنٌ أن نشرب بعض الشاي". فجلسن كلهن معاً حول الطاولة الصغيرة. بالكاد استطاعت فيرا الصغيرة أن تتذوّق فطيرتها لأنها كانت تستمع بلهفة إلى السيدتين وأمّها تناقشن مسائل البذلة والكتب والامتحان.

عندما رحلت الزائرتان غير المتوَقَّعَتان أمسكت الأم بيد فيروتشكا وقالت لها: "الآن يا فيرا الصغيرة، لنشكر الرب والقديس نيقولاوس على كل شيء، وليس فقط على المدرسة". في مكان ما رأت فيروتشكا في خيالها رجلاً مسنّاً متألّقاً، رجلاً لم يكن وجهه صارماً كما في الأيقونة، بل كان ذا ابتسامة حنونة ودودة، تماماً مثل ابتسامة المربية عند رحيلهما.