الخميس، 7 يونيو 2018

شيطان الحسد


 قصة للاديب ابراهيم المصري، وهو كاتب وصحفي حائز على جائزة الجدارة.
عن كتاب: الانسان والشيطان- 1976

لما كان طلعت يخلو الى امراته بعد انصراف اختها، كان يقول لها وهو يتاملها طويلا ويبتسم:
تعرفي يا بدرية ان اختك رجاء دي ظريفة وخفيفة الدم..
فتؤمن بدرية على كلامه وهي تتطلع الى جيدها الناصع، وتهز جدائل شعرها الناعم، وترخي اهدابها الطويلة في دلال، كانها تباهي هي الاخرى لا بخفة طائشة بل بجمال ساكن مطمئن رصين.
اما رجاء فكانت تكر راجعة الى بيتها الضيق  المظلم ساخطة وثائرة، تهتف في نفسها والحسد ياكل قلبها: كل شئ لبدرية!.. كل شئ لبدرية!.. وجه جميل، وجسم جميل، وبيت جميل، ورجل جميل!.. لماذا؟.. لماذا يغدق عليها الحظ كل هذه النعم بينما يتنكر لي؟.. لماذا ينصفها بينما يظلمني؟
ثم تدخل الى بيتها وتلتقى بالاسطى حنفي، فتبصر وجهه المغبر، وشعره المشعث، وقميصه المتسخ وبنطلونه الذي فشت فيه بقع الزيت والصمغ كانها صفعات القدر. فتضطرم روحها بمعترك من الفكر الناقم المتمرد. وتاخذ في صب جام غضبها  على راس العامل المسكين.
وابت الا ان يكون لها ولو بع ما لاختها. فجعلت تنغص حياة زوجها، وتحثه على مضاعفة العمل، وتلح عليه في طلب المال، ثم تحرمه وتحرم نفسها وتشتري بالنقود ستائر بيضاء للنوافذ، او اغطية وردية للارائك، او مفارش حمراء للمائدة، او صورا لغرفة الاستقبال او اي شئ يمكن ان يجمل بيتها ويرفع مسشتواه ويثير دهشة امها واختها حين تزورانها ويجبرهما على النظر اليها نظرة اكبار وتقدير.
وبالرغم من هذا كله فقد ضحك القدر ضحكته القاصفة مرة اخرى.
حملت الاختان في وقت واحد تقريبا. وضعت بدرية طفلا ذكرا. ورجاء بنتا شبيهة كل الشبه بوالدها الاسطى حنف النجار.
هذا الظلم الصارخ الجديد، اشاع في نفس رجاء ضربا من الهوس. لم تطق رؤية اختها. لم تتحمل ذكر اسمها. تمارضت ولم تحضر الاحتفال ب "سبوع" الطفل. غشيتها غاشية طاغية من الكمد. فمكثت اياما بطولها حبيسة بيتها، لا تكاد تسمع عويل طفلتها "نعيمة" حتى يندفق الدم في راسها. فتتمثل ذلها وعارها. فتمعن في البكاء وهي تجار وتتلوى.
وانهارت قواها. اوشكت ان تياس وتستسلم لحظها. ولكنها في العام التالي، وبسحر ساحر ماكر يعجز العقل عن ادراك غاياته، حملت رجاء مرة ثانية ووضعت مولودا ذكرا، ما ان حدقت  فيه حتى هزت الفرحة كيانها من الاعماق.
كان ممدوح جمالا رائعا. فاختبلت به رجاء، وملكتها حيال  جماله كبرياء لا توصف.
زايلها احساسها بنقصها بغتة وزايلها ياسها. رد اليها الطفل اعتبارها في نظر نفسها. ولكنها لم تقنع. لم تتواضع، بل استفحل كبرها، وعاد شيطان الحسد والحقد ينهشها. فاشتعلت مطامعها، وضاعفت في صدرها رغبة لتفوق المطلق على اختها.. لقد اصبحت حقا انثى، لا يستطيع انسان بعد اليوم ان يحقرها، ان يقول انها بالامس كانت هزاة وضحكة، ان يذكرها بانها طالما حنت راسها صاغرة والتقطت الشبشب من تحت الكنبة لاختها!.. لقد انتصرت!.. جازت اول شوط من المعركة وانتصرت. دان لها الحظ وظفرت بالطفل الذكر الجميل. فلماذا، لماذا لا يسلم لها الحظ قياده ايضا. لماذا لا تحيا الحياة الرغدة الخليقة بها. لماذا لا تصبح كاختها وتظفر فوق الطفل الجميل برجل جميل، وبيت جميل، ومستقبل زاهر وسعيد؟!.. نعم.. الرجل.. الرجل الجميل الميسور هو وحده الذي يمكن ان يكفل لها البيت والمستقبل والجاه والحياة. ولكن اي رجل، وهل هي تعرف رجلا في مقدوره ان يحقق لها كل هذه الاحلام؟..
واضطربت. ولم تعرف لماذا اضطربت. ظلت ساهمة وشاردة، ثم ارتجفت. هبط قلبها على صدرها. ساورتها فكرة اذهلتها. فبهتت واقصتها عنها. ولكن الفكرة عادت وراودتها. فتحرك فيها الجانب الخير من طبيعتها واراد ان يوقظها. ولكنها انكمشت وانطوت وسبح خيالها في المناعم التي حرمت منها. وما ان تصورت تلك المناعم حتى تلبسها الشيطان. وظل يوسوس لها. فاصغت اليه. واستعذبت همسه وتاه عقلها. احست ان في وسعها ان تتيقظ وان تتراجع. ولكن ذلك الهمس لاحقها. اطربها فعز عليها ان تقاوم. ان تستنكر ان تثور. فابتسمت بل ضحكت. لم تعبا بصوت ضميرها الذي كان يزجرها، ويذكرها برابطة الدم وعاطفة الاخوة. اسلمت نفسها لخيالها المتلهف المنهوم في نشوة مغامرة ومستهترة وضارية، ذهبت بليلها.
ولم تتردد. وفي ذات يوم، تجملت وتبرجت، وخرجت من بيتها، واتجهت نحو منزل اختها وملء نفسها العزم على تذليل كل عقبة وتنفيذ خطتها.
بدات مسلكها حيال بدرية، قبلت ملهوفة عليها وعلى ابنها الطفل "حسن" تطريها وتخدمها. تصطنع لها الرد الصادق، والحب الغامر، والوفاء النزيه العميق. فابتهجت بدرية الساذجة بهذا الحب ايما ابتهاج، واعتقدت ان فرحة رجاء بمولودها الذكر قد بددت غيرتها. فقدرت عواطفها، وقدرت سماحتها، واتخذت منها صديقة وحبيبة وناصحة.
وتمهلت رجاء اياما، وفكرتها المستاثرة بها، المتسلطة عليها، تدفعها دفعا الى التمثيل والتمويه والتفنن في اتقان دورها.
ولما اطمانت الى ثقة اختها فيها تحولت نحو زوجها طلعت، وشرعت تلقي عليه شباكها.
تسللت اليه اول الامر في رقة وبساطة ومكر. ثم تشجعت وتقربت اليه بكل ما كان ينقص بدرية. تقربت اليه بالنزعة نفسها التي كان هو مطبوعا عليها. بالمرح والخفة، والطلاقة والحيوية، والغمزة والنكتة، .. تخلب بها الرجل دون ان تتهور ويبدو عليها من نواياها السيئة شئ.
وكان مظهر رجاء ، لفرط قدرتها على التصنع، يضلل اخوتها تضليلا مطبقا. فكانت بدرية تعتقد ان المرح اصبح طبيعة في رجاء. وان ما يصدر عنها هو محض مباسطة لا مغازلة، فتطرب هي ايضا لطرب اختها، وتشاركها في مرحها، وتشارك طلعت في  الضحك والعبث والمزاح.
ودب القلق والاضطراب في  نفس طلعت. احس ان رجاء لا تعبث بل تغازل، ولا تلهو بل تستدرج. فدهش وانتابه الذعر وتراجع. ولكن رجاء غافلت اختها وامعنت في المغازلة والاغراء. فارتبك الشاب واشتد خوفه وصد عنها. فاسرعت هي واعرضت عنه. تعالت عليه. احتقرته، ومضت تلهو في صحبة اختها كأنه هو غير موجود. فهاله استهتارها ، واثارته وقاحتها، واستمسك بصده وجموده كي يلزمها حدها. بيد انه كان يقاومها ولا يحتمل اعراضها. كان جوها الطلق يجذبه، وابتذالها المناقض لاحتشام امراته يفتنه، واغراؤها الدائم المتلون يتملق كبرياءه وياسره. فتفاقم اضطرابه، وبدل ان ينهر المراة في صراحة ويزجرها، غاظه منها ان تحتقره. فسعى اليها بنفسه، واستضعف وتخاذل، وحاستها ولاطفها، وهو لا يشعر انه في طريقه الى التعلق بها والتهافت عليها.
وكانت دمامة رجاء قد تقلصت وغابت في غمرة خلاعتها. فكان طلعت يتاملها وهو مبهوت فلا يرى انفها الضخم  او فمها العريض او شفتيها الغليظتين، او عظامها الناتئة. بل يرى جوها وعينيها فقط. جوها المعربد العاصف، وعينيها الضيقتين اللتين اتسعتا فجأة، واصبحتا تدوران، وتغزلان، وتتألقان، وترسلان بوارق تخطف البصر وتسلب القلب وتغري بوقدة الحس، وسكرة الشهوات..
واشتد انجذابه اليها وازداد رعبه، فاراد ان يتخلص منها، ان ينبه امراته الى مسلكها، عسى ان تردهاالى صوابها، او تغضب رجاء وتثور وتنقطع عن زيارتهم من تلقاء نفسها. ولكن حادثا وقع في تلك الفترة رده على اعقابه وكبله.
اصيبت حماته الست نظيرة بداء عضال وتوفيت بغتة. فحزنت عليها بدرية حزنا شديدا، ولم تجد عزاءا لنفسها الا في توثيق عرى الصداقة بينها وبين اختها.
واحرج طلعت، وغزت بيته رجاء..
اصبح يراها امامه كل يوم تقريبا، يتصل بها مكرها، يتحدث اليها على مضض، يحاول ان يقاوم اغراءها، فيثيره منها مبرها واعراضها، فيزداد انجذابا اليها وافتنانا بها.
واجهده احساسه بالقلق والتشتت والتخبط، فوهن على مر الزمن عزمه، وفترت ارادته، ولم يعد في مقدوره كلما اسعفته الفرص الا ان يقبل على رجاء متوددا مستعطفا، ناشدا منها على الاقل نظرة عطف وابتسامة رضا.
وتذوقت المرأة الحاقدة الدميمة، لاول مرة، حلاوة التمنع الشامخ. فاغرقت في كبرها واحتقارها. ففقد طلعت صوابه، وترخص وتذلل، وبدأ يسترحمها.
ولما رأته مستسلما ومهزوما وايقنت انه قد احبها وهام بها وبات لا يستغني عنها ولا يصبر على صدها، مالت بغتة اليه كأنها قد غلبت على امرها، وكأنها لم تصده من قبل الا لتخنق هي ايضا حبا مثل حبه.
واغتبط الشاب بهذا التحول، واندفع الى المرأة مشغوفا وارتطم. فلكي تخضعه وتطويه، منحته في غفلة عن اختها بعض القبل، ومضت تروضه على الحذر واليقظة، والصمت والتكتم، والكذب والرياء، والتفنن في التمثيل والتمويه، هذا وهي تبصر بدرية الخالصة النية، الصافية السريرة، لا تفطن الى شئ ولا تتوجس من شئ. فتمعن رجاء في تضليلها بصدق ودادها ووفرة خدماتها، ولهفة حنانها عليها وعلى ابنها الوحيد حسن.
وكانت رجاء ، كلما ضعف طلعت وتهور في مسلكه حيالها واحست انه لم يعد يملك زمام نفسه، وان الشك فيه يوشك ان يساور اختها، كانت ترسل هي على الفور نكتة طريفة مصحوبة بضحكة مجلجلة ثم ترتمي على الطفل حسن، وتاخذه بين ذراعيها، وتنادي ولديها ممدوح ونعيمة ثم تنبطح على الارض. فيركب الاطفال الثلاثة ظهرها فتدور بهم في غرف البيت وهي تقهقه فتضحك بدرية، ولا تستطيع ان تتصور لحظة واحدة ان مثل هذه المخلوقة الطائشة العابثة الغريرة يمكن ان تكون منافقة وغادرةز وهكذا ختمت رجاء بدهائها على بصر اختها، وسلبت منها قلب زوجها.
اما طلعت الذي كان قد الهبه الاغراء المحنك والصبر والكبت والحرمان الطويل، فقد اراد ان يمتلك رجاء. وهي، هي نفسها، احست وادركت انها ان لم تجبه الى رغبته وتهبه نفسها في يوم قريب، فهو لابد ان يكرهها، وينبذها، ويبذل قصاراه للتخلص منها. فتفقده، وتفقد المال، ماله الذي تطمع فيه، ماله الذي كان سيغدقه ولا ريب عليها. ماله الذي بدونه لن تظفر باسباب الترف التي حرمت منها، ولن تصبح السيدة المرموقة التي خالستها في احلامها، ولن تستطع ان تتخذ لها يوما مسكنا جديدا، رحبا وجميلا، تزينه بابهى الرياش وتستقبل فيه من هن اعلى مكانة واعز قدرا من بدرية .. اجل. لا مفر لها من ان تكون لطلعت. لا مفر لها من ان تعزم وتقدم، والا فسيرتد حقدها الى صدرها، وتفشل فشلا ذريعا في كيدها وانتقامها.
ذلك هو الهدف المنشود، فماذا فعلت رجاء لتبلغ هدفها؟.. اثارت عاصفة بينها وبين زوجها العامل المسكين الاسطى حنفي. تجهمت له. عصت اوامره. سخرت من عاداته واخلاقه. من شكله وزيه، من مهنته وربحه، وعافته. فهاج هياج الرجل وضربها ضربا مبرحا. فقابلته بثورة عارمة وهي في قرارة نفسها مبتهجة. ثم اسرعت واصطحبت طفليها ممدوح ونعيمة، وتركت البيت، وهرعت الى بدرية تقص عليها ما وقع، وتبكي وتصرخ، نادبة حظها، ممعنة في تمثيل دورها، ملتمسة الى اختها ان تبقيها في بيتها حتى يتأكد زوجها من عزمها القاطع على الانفصال عنه فيزهد فيها ويبعث اليها بورقة الطلاق.
وكان الوقت ليلا، والساعة قد جاوزت الحادية عشرة، والجو حارا خانقا، وطلعت ممددا على كنبة في البهو الكبير  بجوار الشرفة المفتوحة يقرأ في كتاب. فلما دخلت رجاء، انتفض ونهض وقد اشرق وجهه. ثم القى بالكتاب جانبا، وراح يستمع لقصتها في صمت. اما بدرية فقد احتضنت اختها، وبكت معها، ثم هدأت من روعها وعرضت ان ترافقها الى بيتها وتبذل ما استطاعت لتوفق بينها وبين زوجها. غير ان رجاء هتفت صارخة ان الموت اهون عليها الف مرة من الحياة في صحبة ذلك الرجل الفظ الغليظ. ثم بكت ايضا. ثم اطرقت لحظة. ثم لانت فجأة، وعدلت عن عزمها، وجعلت تتوسل الى بدرية ان تبقيها في بيتها ولو الى ثلاثة او اربعة ايام فقط حتى يندم زوجها ويتعظ وياتي بنفسه ويصالحها. فاعترضت الاخت وخافت ان يؤدي هذا التصرف الى اذلال الرجل وينتهي بطلاق. ولكن طلعت تقدم بغتة، وفي نخوة وقوة وحماسة، قال ان من حق رجاء ان تمكث في بيته ذودا عن كرامتها، وانه هو الذي سيتصل في الغد بزوجها، وهو الذي سيعرف كيف يؤنبه ويلطف من سورته وياتي به ليستغفر امراته ويصالحها. فابرقت عينا رجاء، وحدقت في طلعت تحديقا ثابتا، ثم غافل اختها ورشقته بنظرة معنوية وهي ترفع حاجبيها وتغمز له بعينها. فادرك هو على الفور مرادها، وثنى اهدابه وارتعش. ثم اشاح بوجهه وقال انه متعب واتجه بخطى متثاقلة ودخل مخدعه.
***
وامتثلت بدرية لارادة زوجها بالرغم منها، ومشت الى الحجرة القصية المعدة للاهل والضيوف والمزودة بسرير وكنبة ودولاب. فغيرت ملاءة السرير، واكياس الوسائد، وجاءت بغطاء خفيف وطرحته على الكنبة. فشكرتها رجاء في حرارة، واستلقت على السرير واخذت ابنتها نعيمة في حضنها، بينما رقد الطفل ممدوح على الكنبة وتدثر بالغطاء.
وانحنت بدرية على اختها، وحثتها على الصبر واحتمال، وتمنت لها نوما هانئا، ثم قبلتها وقبلت الطفلين، وتحولت هي الاخرى صوب المخدع ولحقت بزوجها.
ت ’,
ت ’,
اوى الكل الى مضاجعهم، وساد السكون في البيت، ولم يعد يلمع في الظلمة غير ضوء ضبابي منبعث من المصباح الخافت الموقد فوق باب الدهليز المؤدي الى المطبخ.
ونامت بدرية وابنها، ونام ممدوح ونعيمة. ثم عمق الصمت، وزحف الزمن، ودقت الساعة المعلقة في البهو الكبير تعلن الواحدة ثم الثانية ثم الثالثة ولم تنم رجاء ولا نام طلعت. ظل ساهرا .. وكان ما كان. اقام طلعت علاقة مع رجاء، علمت بها بدرية، طالبته بالطلاق. وبعد فترة تزوج طلعت من رجاء، فاصبح لها البيت الجميل والزوج الجميل