الأحد، 29 ديسمبر 2013

ساكن المغارة

لحيته متركزة اسفل ذقنه، جبهته خالية من الشعر، عروق وجهه ويديه بارزة من تحت الجلد، يعتمم عمامة من القماش الابيض الرخيص، وجلبابه اسود، و اغلب الظن انه حافي القدمين! وسنلاحظ كيف يحاول باستماتة، و بكثير من حركات اليدين، ان ينقل الى الواقفين ما يريد ان يقوله فقد كانت مفرداته قليلة من اللغة العربية. هو في الاصل حبشي ترهب في الحبشة باسم "جبرا كريستو" وتعني "عبد المسيح". الرهبنة منتشرة في الحبشة فقد وصل عدد الرهبان في اوائل القرن العشرين الى اثنى عشر الفا و عدد الاديرة الى ثمانمائة دير، اما الكنائس فعددها يربو عن اثنى عشر الف كنيسة وعدد الكهنة يقدر بخمس عدد الذكور فيها حيث يصل عدد الكهنة في بعض الكنائس الى خمسمائة قس يعاونهم مائتي شماس. وتسمى الكنيسة هناك "بيتا كريستان" اي بيت المسيح، والكنائس تبنى من الخشب في شكل سداسي يتوسطه المذبح و هناك اكثر من ثلاثمائة كنيسة منحوتة في الصخر. والوجبة الرئيسية في الاديرة – وفي الواقع هي الوجبة الوحيدة في اليوم - عبارة عن مغرفة من الموز المطبوخ بعد تجفيفه حيث ينمو بكثرة هناك على ضفاف البحيرات.

جاء الى مصر في عام 1935م وابدى رغبته في الالتحاق بالدير للبابا يؤانس وهو الهدف الذي دفعه الى المجئ من الحبشة الى مصر سيرا على الاقدام. قطع المسافة سيرا على الاقدام في تسعة اشهر، والرحلة تستغرق في الاصل ثلاثة اشهر ولكنه كان يتخللها ايام يمكث فيها عند بعض الناس البسطاء الذين يرحبون بكل شخص غريب و يأوونه في بيوتهم عملا بقول المسيح "كنت غريبا فاويتموني" وايضا قول الانجيل "لاتنسوا اضافة الغرباء لانه بها اضاف اناس ملائكة وهم لا يعلمون". بحسب تعبيره البسيط يقول "المسيحيون رحبوا بي في قلاليهم". وحين كان يسأل عن سبب مجيئه من الحبشة الى مصر كان يجيب "كان فيه فلوس لكن لم يكن فيه اخرستوس" ويقصد ان المال كان وفيرا لكن لم يكن هناك علاقة قوية مع المسيح.

لم يطق أسوار الدير. طلب من رئيس الدير ان يأذن له في الاقامة بمغارة تبعد قليلا عن الدير، ولكنه رفض اذ انه غريب و لا يحمل اوراق رسمية. فما كان منه صنع حبلا من ليف النخيل وتسلق السور. خرج إلى الصحراء وأقام متوحدًا في مغارة. وعندما عرض عليه ابونا انطونيوس السرياني (البابا شنودة الثالث فيما بعد) ان يصنع بابا لمغارته رفض ببساطته المعهودة وقال "هل يصنع الذئب بابا لجحره؟!".. وعندما سأله بعض الرهبان كيف يقضي يومه اجاب بالتعبير المألوف في التدبير الرهباني "قليل صلاة.. قليل قراءة. قليل عمل" ولكن هذا القليل كان كثيرا جدا، واما القليل حقيقة فكان كلا من الطعام والنوم.. واما عن عمل اليد، فكان ضفر الخوص.حيث يصنع منه قففا صغيرة لحفظ الخبز الشخصي للراهب، كما كان يعمل في ضفر الليف ليصنع منها الحبال، وقدكان يرسل الحبال الى الدير لاستخدام العام في حين يهدي كل راهب جدي سلة خبز. وكان يبدأ في بعض الاوقات في عمل القفة وهو في طريقه من المغارة الى الدير ثم يكملها على باب الدير، ليتركها لاحد الاباء كهدية.

نحن نعرف ان الصلاة هي ترمومتر الحياة الروحية فمن كانت صلاته فاترة كانت قامته الروحية ضعيفة ومن كانت صلاته حارة كانت قامته الروحية عالية. وكان الاب عبد المسيح احد جبابرة البأس في الطريق النسكي، كان يقضي قسما كبيرا من يومه في الصلاة. ويروي احد الرهبان وكان يزوره كثيرا انه كان يحفظ المائة وخمسين مزمورا. ونحن نعرف ايضا ان الله يتعامل مع اولاده بطريقتين: الاول: تلبية الاحتياج. والثاني: اسقاط الاحتياج. بمعنى ان الله يلبي احتياجات المبتدئين ويسد اعوازهم، بينما مع المتقدمين في الطريق الروحي يسقط هذه الاحتياجات بمعنى انه يجعلهم لا يحتاجونها. وفي نسكه كان حكيما فقد كان يتناول طعاما جعله يواصل الحياة في الجسد حتى الثمانين.

في التدبير الرهباني هناك منهجان في الزهد، اولهما: التجرد من اية مقتنيات عملا بتعليم الانبا موسى الاسود الذي قال "محبة المقتنيات تزعج العقل، والزهد فيها يمنحها استنارة" والثاني هو: عدم التعلق بالمقتنيات والذي صاغه احد الاباء بقوله "لايضيرنا امتلاك الشئ، ولكن يضيرنا حزننا على فقدانه". العجيب انه لم يكن متشددا بلا فهم، او مغال في سلوكه وحسب، وانما كان مرنا فعلى الرغم من قناعته الشديدة بضرورة البعد عن العالم، نراه يترك مغارته عدة مرات، اما الى وادي النطرون او الى القاهرة او الى الاسكندرية، على انه يقضي الايام القليلة خارج مغارته بنفس طقسه وبالتالي يعود ثانية الى مغارته و كأنه لم يتركها!.. كانت الفضيلة راسخة في اعماقه فالفضيلة عمل روحي ولها جذور عميقة في نفس الانسان الروحي بينما العادة تأثير سطحي مجرد قشور نتيجة للجهد البشري وليس من ثمار الروح. قال مرة لاحد الرهبان: ان الله اعطانا السلطان لا لنقتل هذه المخلوقات (الثعابين والعقارب) بل لننجو من ضررها فقط. وعندما سأله احدهم مرة: "الا تخاف من ان يهاجمك ذئب، فاجاب بفرحوتعجب "وهل يهاجم الذئب ذئبا؟!"

عاش أبونا عبد المسيح قرابة خمسين عامًا في الرهبنة، قضي أغلبها كمتوحدٍ في مغارة بجوار دير البراموس. وإذ شعر بقرب رحيله من العالم أراد أن يموت بأورشليم، وكانت العلاقات بين مصر وإسرائيل مقطوعة وعدائية. ولكنه أصرّ أن يذهب إلى القدس علي قدميه، فكان من المستحيل تحقيق ذلك لأسباب سياسية. أخيرًا اقتنع بأن يمكث في القاهرة لحين عمل جواز سفر أثيوبي له وأخذ تأشيرة دخول لبنان وسوريا ومن هناك يذهب إلى القدس.عاش قرابة سنة في حجرة تحت السلم بمبنى الكلية الإكليريكية، ثم جاء إلى الإسكندرية للسفر من الميناء البحري. وبعد فترة قصيرة من وجوده باورشليم رحل إلى الفردوس.
مستوحاة من حياة ابونا عبد المسيح الحبشي