الجمعة، 3 يونيو 2016

لمحات من حياة ابونا مرقس داود


كان ابونا "مرقس داود" يدلي برأيه في صوت خافت رقيق وفيما يشبه الاعتذار عن تفوقه الواضح في النقاش. وحكمة هذا الرجل المبارك الذي يشرك تلاميذه بطريقة تربوية رائعة في كثير من انتاجه الوفير لتعليمهم واعدادهم لخدمة كنائسهم. في ترجمة القداسات الاثيوبية.


كان تعبيره الذي يوجه به رسائله لكل ابناءه هو "ابني الحبيب.. قبلاتي الحارة واشواقي الروحية الوافرة، ارجو من الرب يسوع ان تكون في ملء صحة الروح والنفس والجسد". هكذا كان فكره واسعا عارفا بان اي عنصر من الثلاثة اذا اختل فانه يخل بالباقين لذلك سبق عصر العلم الذي قنن هذا في المدارس الحديثة حيث يعالج الانسان بفريق من الاطباء الجسديين والروحيين وايضا المرشدين الروحيين.


كانت الصلوات ممتزجة بروحه في الانسان الباطن، فاذكر اننا ونحن نودعه وكان في غيبوبة المرض الاخير- قائلين له "سلام يا ابانا" كان يرد وهو غير مدرك لشئ مما حوله قائلا "ولروحك ايضا وكأنه في قداس الهي.


ما رأيته مرة منصرفا عن الاستماع، مطبقا قول الرب "لان الاستماع افضل من تقديم الذبيحة" .. كان يستمع للطبيعة والناس والكتب المقدس. لذا فقد امتلأ، وملأ الكثيرين.


كانت من عادة ابونا "مرقس داود" ان يصلي قبل الطعام قائلا: 
يارب نشكرك لان كثيرين لهم صحة وليس لهم طعام. واخرون عندهم الطعام وليس عندهم الصحة ليأكلوه. فنشكرك يا رب لانك اعطيتنا الاثنان معا. فليكن اسمك مباركا. امين


وكان كثيرا ما يردد القول المأثور: 
نحن اناس لا نأكل حتى نجوع. واذا اكلنا لا نشبع. 


كان اذا احد اشار الى لبسه يرد بقول الشاعر: 
اذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه فكل رداء يرتديه جميل


راودتني مرة فكرة نحوه بسبب منظر بيته الذي اعتبرته فاخرا .. وحينما انقشعت الفكرة من ذهني تأملت في كل ما هو حولي فاذا هو عتيق قديم، فمكتبه الذي ظننته فخما، هو ذاته مكتبه منذ ستون او سبعون عاما. وهكذا مكتبته واثاث بيته، ولكنه كان يعيش كمن لا يعيش، يستخدم ما حوله من مقتنيات بحرص شديد، وكأنه يريد ان يكون بخارا خفيفا على كل شئ حوله. 


في كل مرة تجلس فيها معه، تشعر بأنه عقلية جبارة مرتبة للغاية. لقد سلم ابونا مرقس حياته لله، فقام الله - تبارك اسمه – بترتيبها. 


كان كثيرا ما يقول: 
ان عمل اب الاعتراف الاساسي هو اعادة بناء الشخصية كي تتوافق مع الله ومع ذاتها ومع الاخرين. 


احب الطبيعة جدا لانها تظهر يد الله ذاته، بل هي تشهد لعظمته وقدرته الفائقة. احب الرحلات والخلوات الروحية بين احضان الطبيعة..كان ينظر للعالم نظرة مستبشرة دائما، نظرة تعكس مدى صفاء نفسه، فكان يرى الخير في كل الامور، كان يرى ان العالم يخدم خطة الله للخلاص.. كان يرى يد الله تقود العالم بما فيه نفسه هو .. كان الله ممسكا بدفة حياته، وكان هو سعيدا بذلك.


البعض يظن ان المعجزات هي مقياس القداسة والبرهان الوحيد عليها. ولكننا نرى القديسين امثال اثناسيوس وكيرلس وديسقورس. ومعاصرين مثل القس منسى يوحنا والقمص بيشوى كامل والقمص ميخائيل ابراهيم، انهم لم يكونوا رجال معجزات، بل رجال تعليم ورعاية.


جلسنا مرة نتحدث عن الملكوت والكنيسة الجامعة، ومن هو المستحق له. فسألني ابي:
"هل تظن ان الناس الذين نشروا الانجيل وترجموه الى كل لغات الارض سيهلكون" فرددت الاجابة التقليدية الضيقة. فزجرني قائلا "لو كانت هنا عصا لضربتك". من نحن حتى نحكم ان هذا يدخل للملكوت، او هذا لا يدخل. وقص لي قصة المتنيح حبيب جرجس حينما سأله احدهم "هل يدخل البروتستانت الملكوت" فاجابه قائلا "لم يعطني الله مفتاح الملكوت لافتح لمن اريد واغلق لمن لا اريد. الله له مقاييس تختلف عن مقاييس البشر". 


كان كثيرا ما يردد هذه العبارات :
دعونا ننفذ وصية الرب يسوع "لنذهب الى القرى والحقول المجاورة لاني لهذا اتيت"


قل لاخيك انا ارى الامر هكذا وان كنت انت تراه غير ذلك، فليكشف لنا الله الرأى الصحيح. 


هناك سحب تمر على الارض مر الكرام خفيفة سريعة تملها اي ريح الى حيث تشاء دون ان تؤثر بشئ. وهناك سحب اخرى محملة بالمطر فتمر على مساحات شاسعة، حيث تغمر كل جزء منها بمياها تشيع الخير في كل مكان تمر فيه. واذا كانت حياتنا بخار يظهر قليلا ثم يضمحل، فان ابينا استطاع بنعمة الله ان يحول هذا البخار الى سحب متكاثفة، بقدر ما تعرض لنور الشمس الساطع الذي زوده بكل طاقة الحياة.

وتقول ابنته عن لحظة انتقاله "اغمض ابونا عينيه لينام في هدوء وسلام، وهو يهمس: اشكر المسيح. كنت اصرخ متعجبة، واقول: يا سلام! هو الموت سهل كدة! انا لن اخاف من الموت بعد ذلك، بل سأقول مع ابي الحبيب اين شوكتك ياموت؟"