كانت اللحظة العظمى تقترب. كانت الظلمة تبتلع في الهاوية بسرعة، شع علينا النور مل فجر مضئ، لكن من بعيد ... بعيد جدا ... عبر الهاوية. كان نور النهار يستولى على ظلمة الليل. قيل لي ان ارض المباركين على وشك ان تعلن لنا. كان النور باهرا يتزايد سريعا، يرمي على الناحية الاخرى الوانا من الضوء لا يوصف جمالها، لا يمكن للنفس البشرية ان تتصور شبيها لها الا في الاحلام و ربما عندما تستهويهم موسيقى سامية.
استولى على جهنم ذعر و كأنها سحرت. و انحصر وجودها في شعور من الرهبة و الخوف. شخصت ملايين من الارواح متعطشة نحو هدف واحد. وقف البعض دون حراك كعامود من ملح ينظرون الى النور المتزايد، و ركع البعض، و سقط البعض على الارض يرتجي تغطية وجهه بينما تحدى البعض – و لكن دون جدوى – رافضين ان ينظروا. اما انا فوقفت ارتعد من الخوف مذهولا عن كل شئ الا المنظر الاتي.
فجأة ظهر كما لو ان نقابا كثيفا قد تمزق او حجابا قد انشق و فاضت سيول من النور، و كان النعيم قد بان مثل كرة من لامع الضياء. شهقت ملايين الارواح المفقودة و ناحت بعويل مؤلم ارجف القلوب و رددت اصداه اركان جهنم. لم اسمع و لم ار بعد ذلك شيئا، و قعت على الارض كانسان بغتته صاعقة.
لا اعلم كم من الزمن بقيت، و لكن عندما فتحت عيني الكليلتين مرة ثانية رأيت نورا ثابتا لطيفا – ضياءا مريحا – يمكن النظر خلاله، و ليس ذلك الضوء الذي يغشي البصر، و مع ذلك كان على ان ادرب نفسي على النظر خلاله. ظهر لي كمحيط عظيم من النور اتخذ رويدا رويدا لونا و شكلا، و انفرج امام بصرى كدنيا من اللطف و الجمال – ما لم تره عين او يخطر على قلب بشر. لم اشك لحظة، انها دنيا المباركين، تفتح النعيم امام عيني، ظهرت لي في ذلك الضوء البعيد اولا جزائر عديدة شواطئها جميلة، و تسبح حولها الوان بديعة متناسقة. بعد قليل ظهر لي ان تلك الاجزاء المنفصلة قد اتصلت فصارت مجمعا واحدا... دنيا البركة. كانت واسعة شاسعة، الا انها مملكة واحدة، جنة مليئة بالبركة و الجمال و المسرة، اجمل بقاع الارض صحراء قفراء بالنسبة لها. ليس عندي كلمة لوصفها. كي اصفها تماما على حقيقتها وجب ان اكون ملاكا و انتم تعلمون من انا .. انسان كان في استطاعته ان يكون ملاكا ... و الآن ... هالك محكوم عليه الى الابد.
اختطفت نظرة من الفردوس و انا ارتعد هلعا، نظرت تعمقت حتى شملت الاف الاميال، فانه على قدر غرابة المنظر صارت لنا قوة ابصار اغرب. روحي تسبح في دوائر متسعة جدا من المجد جمالها الفائق مكشوف امام حواسي المجلوة. شعرت بنسيم منعش سمعت حفيف الاشجار و خرير المياه... كانت هناك موسيقى توقع لغة الطبيعة الممجدة ... و كل الاصوات تتصايح بتناسق فني فتان. لم اشاهد للان نفوسا حية، و لكن اناشيد السرور و التسابيح الرخيمة تتردد في كل مكان. الطبيعة و الارواح تتحد في مزمور حلو النغم، ماذا اقول؟ النعيم بما فيه من السعادة و السلام جعل السرور يطفر في قلبي و لكن بألف خنجر من التشوق.
هذه اذا عدن. اخال انني فيها... لكن ما ابعدها! ما ابعدها! من كل هذا البهاء لا شعاع واحد لي، و لا زهرة .... بل و لا نقطة ندى! ايتها السماء المباركة الا نقطة ماء! الا نقطة دموع.
لكن اين هم؟ اين الارواح التي لا تعد؟ اين المفديون المخلصون؟ لم ار واحدا منهم بعد، ظهرت لى الجنة كأن لم تطأها قدم منذ اليوم الذي طرد منها ادم و حواء بسيف لهيب النار. صرخ قلبي من اجلهم تائقا متعطشا لهم و قلت "اين انتم يا اعزائي ان كنت لا ابصركم في السماء؟" ..
ان المباركين في الفردوس قد اعفوا حتى من الافتكار في جهنم و كل ما فيها من مخاوف و اهوال، غير ان الهوة السحيقة التي بيننا لا تفصلني حتى عن ادق افكارها- الويل لي!
ان نصيبي اليومي هو فقدان الرجاء و هو مثل النار الاكلة يلتهم نفسي حتى اشعر انني صرت رمادا. و لكن و يا للحسرة لا افنى او اموت. و في اللحظة التي اشاهد فيها هذا المنظر الحلو – المر، زاد اللهيب اتقادا بحطب من الجحود هو لب جهنم. تتحول هنا النعمة و المسرة الى يأس. ان وجودى نفسه اصبح عذابا يأكلني... كالنار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله.
كانت الصرخة المدوية المستمرة لروحى المعذبة "انظر ! ما عساه ان كان نصيبك... و لكنك فقدته ...فقدته".