الأربعاء، 24 أبريل 2019

جوديت #٤

الحرب العالمية والملاجئ
اعوام قليلة مضت على الاحداث التي ذكرناها وبدأ عام 1914، العام المصيري لاوربا. كان هناك شئ من الاضطراب بين المسؤلين، وحتى بين السكان في المدن الحدودية. كان الاقتصاد ضعيفا، وكان الناس يتحدثون عن غيمة الحرب القاتمة التي تظلل سماء اوربا. ولان عائلة وينبرج كانت تقطن بالقرب من الحدود الالمانية، فقد كانت تشعر بعدم ارتياح كبير، ولم يستطيعوا ان يقررواما اذا كان بامكانهم ترك المدينة هذا الربيع لزيارة والديهم ام لا.
واخيرا جاء اليوم المخيف، في الاول من اغسطس، عندما هبّ اعصار الحرب على البلد. وبسرعة توقدت البلاد كلها بنيران الحرب لسنوات كثيرة. وعبرت القوات الالمانية حدود روسيا. كانت القوات الروسية تتحرك في طوابير لا تنتهي داخل البلاد لتحمي البلاد. وهرب السكان الامنين من بلادهم الغالية في عجلة،حتى انهم لم يستطيعوا حتى حمل الاشياء الهامة التي تخصهم.
كانوا يتحركون في جماعات كبيرة خلال مختلف الطرق، من مدنهم الحدودية الى داخل البلاد متلهفين على ترك المناطق التي ابتليت برعب الحرب باسرع ما يمكن. لم يفكر احد في استخدم القطار، لان السكك الحديدية كلها كانت مخصصة لنقل الجيش والذخيرة الحية. وكانت القطارات في عودتها تحمل بالجرحى. وكان منظرا مالوفا ان ترى اطفالا يبكون لفقد والديهم، واباء وامهات لفقد اولادهم.
بين هؤلاء كانت عائلة وينبرج. ولكن استطاع السيد وينبرج ان يأخذ بعض المال والان هو يسير هو وزوجته وبناته في الطريق المترب، باحثا عن مكان امن داخل البلاد.
كان الجميع يتوقعون انه بعد اشهر قليلة سيعبر اعصار الحرب ويستقر الامن والامان في البلاد.
بعد عدة جدالات قررت عائلة وينبرج ان تختار مدينة جيم لبيتهم المؤقت. كان العديد من اليهود يعيشون هناك وكان للسيد وينبرج معاملات تجارية مع بعضهم.
لم يكن هناك وقت للتفكير في حالهم عندما كانوا يسرعون بالهرب من جحيم الحرب مع الجموع الهاربة، ولا حتى في الاربعة ايام السير المضني في الطريق السريع الرئيسي. في ذلك الوقت لم يكن يسيطر عليهم سوى الخوف الشديد من ان ياخذهم الالمان اسرى حرب، والرعب القاتل من ان يتيه واحدا منهم اثناء سيرهم في الطريق. ولكن الان اذ يحيون في امان فان لديهم الوقت الكافي ليفكروا ويحزنوا لخسارتهم الكبيرة.
جوديت كانت وقتها قد امضت عامين في الكلية، وكانتا اختاها الصغيرتان بالثانوية. كانت جوديت كثيرا ما تترك اختيها لتنضم الى والديها. كانت تنظر اليهما مشفقة بعينيها السوداوين الجميلتين.كانت تبلغ وقتها السادسة عشرة وبذكائها استطاعت ان تدرك حجم المشكلة التي يعاني منها والداها الحبيبان. ولم يمكنها ابداان تشترك في الاحاديث الضاحكة مع اختيها دون ان تفكر جديا في المستقبل. لكنها كانت تنظر الى المستقبل نظرة اكثر اشراقا من الجميع، فمنذ نعومة اظافرها تعلمت كيف ان الله اعان الاباء في وقت الضيق والالم. الالم سر لا يمكن حتى الان ان يكشف احد كنهه ولماذا يسمح به الله.. هي تؤمن الان ان الله لا يتغير ابدا، واذ كان الله اعان الاباء قديما فمن المؤكد انه سيعينهم في هذه الايام.
اسندت ظهرها الان الى الحائط وعادت بمخيلتها عبر القرون الى ارض مصر، وتأملت كيف ان اباءها الاولين في ليلة واحدة منطقوا احقاءهم وحملوا حقائبهم البدائية على اكتافهم وامسكوا عصيهم في ايديهم وجمعوا اولادهم حولهم، واذ تركوا بيوتهم خلفهم غادروا البلاد التي عاشوا فيها 4 قرون كاملة.
وبسرعة تأقلمت مع وضعهم الجديد. مرت سنتان واصبح افراد عائلة وينبرج مواطنون دائمون في مدينة "جيم"، وكانوا في اعمالهم ناجحون جدا، كبرت البنات وخاصة جوديت التي كانت دائما فخرالعائلة والفتاة المحبوبة في المجتمع اليهودي. وبقلب الام الفخور، كانت السيدة وينبرج تخبر زوجها احيانا انه لا توجد فتاة في مجتمعهم يمكن مقارنتها بجوديت.
كانت جوديت قد انهت دراستها بالكلية هذا العام، ولانها كانت التلميذة الاولى في تقديراتها فقد حصلت على الميدالية الذهبية. انهت جوديت دراستها في الكلية هذا العام.
كانت عائلة برنستاين هي اكثر العائلات قربا لديهم منذ وصولهم الي "جيم". كانالسيدبرنستاين تاجرا كبيرا. كانوا يلتقون كثيرا ولاكثر من مرة عبر السيد والسيدة برنستاين عن رغبة قلوبهم بخصوص ابنهم سولومون وجوديت حيث لا شئ يسعدهم اكثر من ارتباط الاثنين معا. كان سولومون وهو الابن الوحيد لعائلة برنستاين، شابا جذاباموهوبا، وقد كسب قلب عائلة وينبرج منذ اليوم الاول الذي التقوا فيه.
كانوا يرون ان سولومون مناسبا جدا لابنتهم. وبملاحظتهما وجدا ان سولومون وجوديت يحبان بعضهما بعضا.  وفي احد ايام الصف جاء سولومون لزيارة عائلة وينبرج ليطلب يد ابنتهما.
وافقا في الحال واعلن خبر ارتباطهما للاصدقاء، وتقرر ان يعقد حفل الزواج في الربيع المقبل.

جوديت #٣

مرت ايام عدة، وفي ليلة دافئة اجتمعت الاسرة بعد العشاء. كان الاطفال يلعبون بينما النسوة يتحدثون. وجلس السيد وينبرج في كرسي واسع مريح من الخيرزان.  كانت عيناه تتأملان الاشعة الاخيرة للشمس الغاربة. وهنا قررت جوديت ان تكون هذه فرصتها للتكلم.
جدي العزيز، ارجوك اخبرني شيئا عن الله، فقد اخبرني وامي انك قرات كثيرا وتعرف اشياء كثيرة.
لقد درست كثيرا ويسرني ان اجيب على تساؤلاتك يا طفلتي العزيزة!
كثير هو الذي اريد معرفته..
قاطعتهم والدة جوديت مشاكسة:
"انها الاسئلة الفلسفية الكثيرة عن الله. لققد اتعبتنا بهذه الاسئل المتكررة. لو كانت جوديت ولدا لاصبحت اعظم رابي عاش على الارض".
من فضلك يا امي، اني لا اضايقك الان باسئلتي. انني اريد ان اكون تلميذة جدي المجتهدة.
اقتربت جوديت بكرسيها الى جدها، واضعة يديها المتشابكتين على ركبتيها، ورفعت وجهها نحوه وقالت "والان نبدا الاسئلة"
اجابها بلطف "من الان ان تبدأي الان والا..
حسنا اذا.. اولا وقبل كل شئ: من هو يسوع؟ اي نوع من الناس كان هو؟
علت وجه الربي العجوز الرصانة والجدية، ونظظر بصرامة الى وجه الطفلة وهو يخاطب امها "معك حق . ان جوديت تشغل بالها بافكار جدية بزيادة".
لماذا يا جدي؟ هل هذا سؤال صعب.
انت تعرفين يا ابنتي ان هذا السؤال ليس صعبا في ذاته، ولكن هناك بعض الاسئلة تكون غير مفيدة لكل الاشخاص. ولكن كنت متشوقة ان تعرفي فسأخبرك.. منذ حوةالي 2000 عام عاش اباؤنا في فلسطين، تلك الارض الغالية. في ذلك الوقت كانوا لم يكونوا مشتتين في كل انحاء المسكونة كما اليوم.
قاطعته جوديت "اليست روسيا وطننا؟"
لا يا ابنتي روسيا ليست وطننا. انها وطن الامم الوثنيين. ان وطننا الحقيقي هو فلسطين.
واردف:
"منذ الفين عام عاش شخص يهودي وهو ابن نجار فقير من الناصرة، وادعّى انه المسيا الموعود به. هذا الشخص يدعى "يسوع". كثير من اليهود انخدعوا به واعتبروه "ابن الله"، زاد تاثيره بسرعة بين العامة. لكن حكماء الشعب راوا تعليمه دمارا وخطرا كبيرا على الامة. لقد تنباوا انه لو نما الى علم الرومان اخبار هذه فمن المكن ان يأتوا ويدمروا اورشليم والهيكل موضع فخرنا.
لذلك فقد عقدوا مجمعا وتشاوروا. وكانت المشورة الحسنة من رئيس الكهنة بانه من المناسب ان يموت شخص عن الامة ولا تهلك الامة كلها. ووافق باقي الحكماء. وهكذا تقرر ان يقتلوا يسوع المحتال.
كانت المؤامرة حكيمة وناجحة ايضا، على الرغم من معرفة اتباعه بها، غير انه لم يكن خائفا لانه كان يعتمد على تاييد وحماية الجموع. ولكن الشيوخ كانوا حريصن جدا لذا قرروا ان يكون القبض عليه ليلا. وقدم واحدا من تلاميذه وعدا ان يدل على مكانه السري حيث كان يقضي يسوع معظم الليالي مع تلاميذه، الذين بدلا من ان يدفعوا عنه هربوا جميعا.
وعمل رؤساء الكهنة والشيوخ كل ما في وسعهم.. وفي النهاية مات يسوع مصلوبا.
كان من المفروض ان يلقى جسده في وادي بن هنوم كما هو جدير بمجرم نظيره. ولكن خطأ قاتلا حدث في ذلك الوقت بسبب اهمال الشيوخ، اذ ان واحدا من اتباعه السريين، ورغم كونه عضوا في مجلس الشيوخ، الا انه ذهب الى بيلاطس وطلب منه ان يأخذ جسد يسوع قبل ان يعلم احد من مجلس الشيوخ. وهكذا اخذ جسده ودفنه في قبر جديد ببستانه كما هو جدير بشرفاء واغنياء الشعب.
بعدما حدث هذا اصبح الوقت متأخرا جدا لكي يعمل الشيوخ اي شئ دون معاداة الحكام، ولكنهم تذكروا ان يسوع قال انه سوف يقوم من الموت. لذا خافوا ان يأتى رفقاؤه ويسرقون جسده ويدعّون قيامته. وليمنعوا هذا ارسلوا الى بيلاطس يخبرونه بمخاوفهم وطلبوا ضبط القبر. وبالفعل عسكر الحراس حول القبر وهدأت الامور، وبدأ الشعب ينشغل باستعدادات عيد الفطير. غير ان تلاميذه لم يقفوا مكتوفي الايدي. في احدى الليالي نجحوا في تنويم العسكر، او ربما اخافوا اولئك الامم الذين يعتقدون في الارواح الشريرة، لدرجة انهم صاروا مشلولين من الرعب. وعندما عادوا الى رشدهم وجدوا ان الختم الذي على القبر مكسورا، والحجر الكبير الثقيل مدحرجا عن فوهة القبر، والقبر خاليا تماما. لقد سرقت الجثة.
عندئذ اذاع اتباعه انه قام من الموت. بعد ذلك حملوا هذا الخبر الى العالم. بل انهم قالوا انهم راوه صاعدا الى السماء بكونه ابن الله. بالطبع هذه كانت خدعة ولا احد منا يصدقها.
بهذا انهى الربي وينبرج قصته عن يسوع.
كانت جوديت تستمع بانفاس متلاحقة الى تلك القصة. وبعد عدة دقائق من الصمت، رفعت عينيها الى جدها وقالت بصوت خفيض متهدج "ولكن ماذا اذا كان يسوع فعلا هو ابن الله المسيا المنتظر؟"
واذ تذكرت قصة الحمل اضافت: "ماذا اذا كان قد مات كحمل الله عن شعب اليهود وشعوب العالم كلها؟".
قفز السيد وينبرج منزعجا ونظر اليها بعينين تتقدان شررا ناسيا انها ليست الا صبية عمرها الثالثة عشر، قائلا "من وضع هذه التجاديف في عقلك؟".
جلست جوديت امام جدها الهائج وقد اصفر وجهها وارتعدت من الخوف، ولم تفهم لماذا هذا الهياج، ما الذي اغضب جدها الى هذا الحد!
اذ نظر الجد الى وجه حفيدته المرتعد عاد الى نفسه، ولكي يصلح ما بدا منه من انفعال، اضاف في صوت لطيف ودود "طفلتي العزيزة . لقد ظللت طوال حياتي احارب خرافات عديدة تهدد ايمان امتنا، وكل ذكر لاي خرافة يثيرني للغاية، خاصة عند ذكر يسوع هذا الذي يعبده المهرطقون ويعتبرونهم مسياهم المنتظر. انا اعلم انك دعوته ابن الله عن جهل. ومع ذلك فمن الخطأ الشديد ان تقارني ذلك المحتال بالمسيا المجيد.
جدي انا لا اعلم ان كان المسيا ام لا. فقط اشعر بحزن لا يوصف انهم قتلوه. ذلك البرئ الذي قتلوه كحمل الفصح. لذلك اسال اذا كان هو المسيا ام لا. ربما اخطأ شعبنا.
لا يا عزيزتي، ان الربيين في ذلك الوقت لا يمكن ان يصدر منهم خطأ كهذا.

جوديت #٢

محادثات الربيين
كانوا يزورون بيت الجد سنويا مع امهم، واحيانا تستمر الزيارة لعدة شهورؤ في المرة الواحدة. وكانت جوديت تذكر جيدا ان كثيرا من الرابيين كانوا يترددون على بيت جدها، وكانوا غالبا منه سنا، ولكنهم كانوا مثله حكماء ومبجلين، ولاحظت انهم كانوا دائما في حوارات تستمر ايامها بطولها واحيانا تمتد الى طول الليل ايضا.
احيانا كانت تسمعهم بصوت عال. وكثيرا ما كانت تذكر اسماء مثل "موسى" و "يسوع". وبالارتباط بالاسم الاخير كانت تذكر اوصاف مثل "المخادع" و "الدجال". ولذلك كانت جوديت شغوفة جدا ان تعرف من هو الشخص الذي يتكلمون عنه. ولكنها كانت تخاف ان تسأل جدها عنه، مع انها كانت تود بشدة ان ان تعرف من هو ذلك الشخص "يسوع" الدجال
اما الان فالامر مختلف فقد سمح لها والدها ان تسأل جدها بحرية، فستساله عن كل شئ.
جاء الصيف واغلقت مدرسة الفتيات وبدات الاجازة الصيفية، وتستطيع العائلة الان ان تهجر المدن المتربة الى نقاء وجمال الريف.
***
كان البيت الجميل المكون من طابقين والمقام وسط الغابة يبدو متغيرا.. اليوم صارت خطوات البنات الثلاثة تسمع في كل ارجاء المنزل وصوت ضحكاته الرنانة تملا كل الحجرات.
فتح الاحفاد الثلاثة بعد وصولهن مع امهن من المدينة كل الهدايا التي احضروها للجد والجدة، وبدا وقت سعيد جدا للاطفال في بيت الجد بعيدا عن اعباء الدراسة، فكانوا يقضون اياما باكملها يمرحون في الحقول والغابات ويجمعون اصنافا من الورود والازهار التي غطت الارض بالوان مختلفة جميلة. وهكذا كانوا يتنعمون مع اصدقائهم القدامى بحياة الغابة الرائعة.
بعد وصول هؤلاء الضيوف بمدة قصيرة حضر ربّيان صديقان صديقان للسيد وينبرج من مدينة مجاورة وكانا منشغلين طوال الوقت في مناقشات دينية. اما جوديت فقد انفلتت من اختيها خلسة وكانت تحاول جاهد ان تكون قريبة من الربّييان بقدر المستطاع، وان تسترق السمع لتلتقط ما استطاعت من الكلمات. لاحظ السيد وينبرج حفيدته الفضولية، وفضّل ان تذهب لتلعب مع اختيها لان حديث الربيان لن يكون مستساغا لطفلة. لم تسر جوديت بهذا الامر، فقد كانت تفضل حديث الربيين عن اللعب، غير انها لا تجرؤ على الاعتراض في وجود الضيوف! لذلك فقد غادرت الغرفة بهدوء. ولكن مما  ادركته من الحديث ادركت انهم كانوا يتحدثون  عن الله والشريعة وعن شخص يدعى "يسوع".
غير انه في تلك الليلة لم تستطع جوديت ان تنام، فقد ايقظها الحديث عن الله. كانت تعرف انه لي لها شا بهذا الحديث, ولكن الفضول انتصر اخيرا، فقامت من سريرها وتوجهت الى النافذة.
استيقظت اختها الصغرى وسالتها"جوديت، لماذا لا تنامين؟"
فوجئت جوديت بالسؤال واذ لم ترد ان تقول الحقيقة اجابت "استمعي يا روث.. فكم هو جميل غناء الطيور".
اجابت روث ضاحكة وهي تجذب الغطاء "النوم عندي اجمل من غناء الطيور كلها".
اجابت جوديت وهي تعود الى فراشها "معك حق يا اختي الصغيرة".
واذ كانت متعبة بعد ليلة سهر، وشعرت ان جسمها مخدر من البرد استسلمت الى نوم متقلقل.
وفي نومها تردد صدى كلمات رجال يتناقشون عن "يسوع". كان قلبها يعتصر الما وهي تفكر . وبدات تدافع عن يسوع في حلمها، وبدات تتوسل الى جدها وجدتها وابيها وامها واخواتها وكل اليهود ان يقبلوا ويعترفوا بيسوع المسيا الموعود به. وبدا لها انها يجب ان تكون قادرة ان تقنعهم كلهم بذلك، ولكن فجاة صاح جدها في وجهها غاضبا بعينين تتقدان شرارا "مرتدة، مهرطقة، لقد هجرت ايمان ابائك، مثلك يجب ان ترجم"
مسكينة جوديت، لقد ارتعبت من جدها الغاضب ومن كلماته الجارحة، فاستدارت بسرعة لكي تهرب منه. فلما فتحت عينيها رات امها بجانب السرير تنحني عليها في لهفة "ماذا حدث لك؟ هل حلمت حلما سيئا؟ مع من كنت تتعاركين؟".
اه يا امي العزيزة! لقد رايت في حلمي اناسا كثيرين حولي، وكنت ارغب انهم يجب ان يحبوا الله ويطيعوا الانبياء.
ما اغرب هذه الاحلام التي تزعج طفلتي! اتركي هذه الامور لجدك وللربيين الحكماء.دعيهم يفكرون في الله اما انا وانت فلنفكر في شئ اخر.
سالتها جوديت مستفهمة "لكن لماذا يا امي يجب ان تترك هذه المسائل للربيين فقط، لماذا لا يهتم بها الاخرون ايضا؟"
نعم يا ابنتي الغالية من حق اي شخص ان يعرف الله ويتكلم عنه ولكن يجب اولا ان يدرس التوراة بتدقيق.

جوديت #١

ايام الطفولة:
كانت الحياة في بيت السيد وينبرج سعيدة جدا، وغيرمتقلقلة لسنوات عديدة. كان تاجرا غنيا يبيع البضائع بالجملة. وبسبب ادارته الحكيمة، كان دخله يتزايد سنويا، وكان العمل ينمو، خاصة في الايام الاخيرة.
ولكن المصالح المادية لم تكن هي كل شئ في حياة السيد وينبرج وزوجته. كان كنزهما الثمين هو ثلاث فتياترائعات ملأن قلب والديهن فرحة وسعادة. كانت غاية والديهنان يمنحهن افضل مستوى من التعليم. وما كان في الحقيقة اكثر اهمية، هو ان يغرسوا في نفوسهن الطقوس اليهودية القديمة الصالحة، ومبادئ الحياة القويمة، وان يزرعوا في قلوب بناتهما الايمان بالله "يهوة" المبارك، الذي في الايام الغابرة كان عونا لكل الامناء الصادقين من شعبه.
كان بين عائلة وينبرج الاقدمين عدد ليس بقليل من الربيين الصادقين والاقوياء في الايمان، الذين كانوا بغيرة شديدة يحمون الطقوس الدينية لابائهم. وبحق كانت هذه العائلة تسمى"حاملة الحياة الدينية"، والتي لم يتبق منها سوى عدد قليل من هذه الامة التي بدات تفقد دينها اكثر واكثر.
ولذلك كان هناك اسف في قلب السيد وينبرج والسيدة وينبرج احيانا، لان الله لم يهبهما ابن ووريث شرعي يحمل رسالة العائلة الروحية. ومع ذلك كانت هذه الاوقات قليلة ونادرة، حيث ان البنات الثلاثة كن ينجحنفي تبديد اي غيوم من الحزن والاسى ، فقد كن يملأن البيت وقلب والديهن بالغبطة والسعادة بثرثرتهن المرحة كعصافير الربيع التي تملأ السماء بزقزقتها الجميلة.
كانت جوديت وهي الابنة الكبرى والاثيرة لدى العائلة، سبب سرورخاص لوالديها، فقد نمت قدراتها مبكرا. كان شغفه الشديد بالدين، واسئلتها الجادة التي تفوق اترابها عن امور الله هو الذي جعل والديها يتوقعان ان تكون جوديت في يوم من الايام شاهدة بالحق لدين العائلة وتراث الاباء. كثيرا ما كانت تمطر والدتها بوابل من الاسئلة عن الطقوس التي تختص بالدين.
في عيد الفصح كان الاب عادة ما يحكي لبناته المتشوقين المغزى من وراء هذا العيد عند اليهود. كان يشرح لهم كيف ان اباءهم كانوا مستعبدين، وكيف انه في ليلة لا تنسى خرجوا وتخلصوا من نير العبودية..
واذ كانت جوديت تنصت الى ابيها بكل حواسها قاطعت اباها فجاة بهذا السؤال: لماذا يا ابي اهلك الملاك ابناء المصريين ولم يهلك ابناء اليهود؟ هل كان ابناء اليهود افضل من ابناء المصريين؟
ارتبك السيد وينبرج قليلا بسبب هذا السؤال، ولكنه اجاب "نعم يا ابنتي كان ابناء اليهود افضل في عيني يهوة من ابناء المصريين. كل الامم الاخرين كانوا يعبدون الاصنام".
فقالت جوديت وقد ثبتت عينيها المتسائلتين على وجه ابيها "وما هي الاصنام يا ابي؟"
اجابها والدها مبتسما "يبدو انك تريدين ان تعرفي كل شئ في ان واحد".
"نعم يا ابي اريد ان اعرف كل شئ، وانت رجل طيب جدا وتعرف كل شئ وستحكي لي، اليس كذلك؟"
اشتركت معها الاختان قائلتين "نعم يا والدنا انت شخص طيب وتعرف كل شئ. اخبرنا ما هي الاصنام".
الاصنام يا اولادي هي اي شئ يحبه الناس اكثر من الله ويعبدونه بدلا من الله. لقد كان للمصريين اصنام كثيرة فعبدوا الشمس والعجل..".
ولكن يا بابا لو انني احببت انت وماما اكثر من الله فهل هذا خطا؟
جوديت، انت تسالين اسئلة كثيرة وغريبة يستحيل على اجابتها في وقت واحد، ولكن ربما افعل ذلك افعل في مرة اخرى.

الاثنين، 15 أبريل 2019

القديسة تريزا بندكت

Saint Edith Stein (Saint Teresa Benedicta of the Cross, O.C.D: Blessed by the Cross (Encounter the Saints Series, 5)My 
الصورة تمثل غلاف لكتاب يحوي قصة حياة إديث شتاين (او القديسة تيريزا بنديكت من رهبانية الصليب). والكتاب ملائم للاطفال من سن 10-14 سنة.


ملخص لقصة حياتها:
كانت ايديث فتاة متعلمة تعليما جيدًا حسب وقتها فقد حصلت على درجة الدكتوراة. وضد رغبات والدتها، اعتنقت الكاثوليكية وأصبحت راهبة فيما بعد. اطلعت على مؤلفات توما الأكويني (تجد مراجعة لفلسفته هنـــا، كما تجد قصة حياته هنـــا)، إيمانا منها بأن البحث عن الحقيقة هو أسمى ما يمكن أن يقودها إلى فهم ما يحيط بها من ظواهر إنسانية. 
انتقلت إلى المعاهد الكاثوليكيّة بعد أن أعفيت من الأستاذيّة، لتعيش حياة الرهبنة، مهرولة إلى اللاهوت لقراءة المفكرين المسيحيين، لا سيما القديس توما الأكويني. وقد كان لهذا التغير المفاجئ وقع على أصدقائها اليهود، بحيث اتهمت بالهروب من جحيم النازية، الذي لم تسلم منه. انضمت شتاين للراهبات الكرمليات الحافيات في كولن سنة 1933 واتخذت اسم تيريزا بندكتا للصليب. ونتيجة لتزايد الخطر النازي عليها انتقلت إلى الدير الكرملي بإخت في هولندا.
نشر تجمع الأساقفة الهولنديين منشورا يشجب فيه النازية علنا سنة 1942 ، وكنتيجة لذلك قررت السلطات النازية اعتقال جميع اليهود المتنصرين، ومن ضمنهم إديت شتاين واختها روزا التي كانت قد تحولت للمسيحية ، وتم إعدامهما من قبل الحزب النازي في معسكر اشفيتز سنة 1942م.


موضوعات ذات صلة:
فينومنولوجية المرأة

الثلاثاء، 9 أبريل 2019

لماذا شنق يهوذا نفسه؟


اثناء اﻻجتماع اﻻسبوعي لدرس الكتاب، وكان الموضوع عن "يوم الخميس الكبير" والدراسة كانت من يو13، تطرق الحاضرون للحديث عن يهوذا اﻻسخريوطي، وذكر احدهم ان يهوذا كان يحب المسيح بدليل انه "لما رأى انه قد دين ندم ورد الفضة، ومضى وشنق نفسه". واعتبر ان انتحار يهوذا دليل على محبته للمسيح. وافقته سيدة اخرى على كلامه وكذلك شخص اخر  وصمت اﻻخرون.
اعترضت واظهرت ان شخصية يهوذا لا يجب على اﻻطلاق ان تمدح او ينسب لها هذه الفضيلة التي تعتبر قمة الفضائل "المحبة التي هي رباط الكمال"(كو3: 14). والتي ان احببنا ان نصف الله بكلمة واحدة نقول "الله محبة". 
دعونا نظهر يهوذا على حقيقته ونحلل شخصيته:

اوﻻ، كان ماكرا وخبيثا:
 اكثر ما اثارني هو موقفه حينما اخبر يسوع عن ان واحدا منهم سيسلمه يقول الكتاب ان يهوذا فعل كما فعل باقي التلاميذ، كان كل منهم يقول "هل هو انا يا رب؟" وكأن كل واحد منهم يشك في نفسه، وهذا ان دلّ يدل على نقاوتهم، فلا واحد منهم كان يفكر ان يسلمه، ومع ذلك تشككوا في محبتهم للسيد. اما يهوذا وهو يعلم تماما ما كان مزمعا ان يفعل، بل ما فعل، فالحديث هنا كان يوم الخميس، بينما كان اتفاقه مع اليهود قد تم يوم اﻻربعاء. وﻻ ننس انه هو من تطوع وبادر وذهب الى رؤساء اليهود ليعقد هذه الصفقة المشبوهة، صفقة الخيانة، وهو يقول لهم "ماذا تعطوني وانا اسلمه اليكم؟". ونسأل: اين المحبة هنا؟

ثانيا- كان خائنا:
هل تتفق صفة الخيانة مع فضيلة المحبة؟ هل من قيل عنه النبي "الذي اكل خبزي رفع عليّ عقبه" هل هذا فعل محبة؟ وﻻ يفوتنا ان نقول باقي كلمات النبوة "كلماته سيوف مسلولة وقلبه قتال" و "انعم من الزيت كلماته وهي سهام" و "احب اللعنة فاتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه".. الخ.

ثالثا- انه اصبح رمزا للغدر:
استخدم يهوذا علامة المحبة وهي القبلة والسلام لتكون اداة لفعل خيانته. حتى ان السيد وجه له هذا العتاب الرقيق "ابقبلة تسلم ابن اﻻنسان؟" اﻻ يترك هذا تاثيرا مقبضا في كل نفس.

رابعا- لم تكن الخيانة وليدة اللحظة:
خلال احداث اﻻسبوع اﻻخير من حياة الرب نلاحظ التدرج المريع، وكأن يهوذا كرة تتدحرج من فوق جبل باقصى سرعة. فرد فعله في حادثة سكب الطيب.. وفي شاء الفصح.. تدل على انه فوّت كل فرص خلاصه. وصوﻻ الى اللحظة التي قال فيها المسيح له "مانت فاعله فافعله باقصى سرعة". انت تعلم ان الرب يعلم ما انت تخطط له، وهو بهذه الكلمات يحذرك، ومع ذلك، يستمر..
اﻻ ان هذا السقوط كان منذ بداية اختياره كتلميذ، حيث نقرأ: "قال يسوع:«اليس اني انا اخترتكم، الاثني عشر؟ وواحد منكم شيطان!»(يو6: 70). وفي مرة اخرى "انتم طاهرون ولكن ليس كلكم"(يو13). اتخيل بعد قول الرب هذه العبارات ان كل واحد من التلاميذ كان ينظر الى نفسه ويسأل "هل انا شيطان؟" وفي المرة الثانية "هل انا دنس؟".. ويبدأ يفتش داخل نفسه.. انها فرصة يدعونا الرب فيها الى ان نفحص نفوسنا.

نقطة اخرى بخصوص الانحدار، وهي ان الانجيل كان دقيقا في استخدام التعبيرات. المرة اﻻولى يقول "القى الشيطان في قلب يهوذا" و الثانية يقول "دخله الشيطان".. فلنحذر من اﻻنحدار! 

نعود الى عنوان موضوعنا، وهو السؤال: لماذا شنق يهوذا نفسه؟
1- تملكه ابليس: بعد ان قرأنا في اﻻنجيل العبارة "دخله الشيطان"، ماذا ننتظر ممن تملك عليه ابليس، سوى هذا!
2- سلك سلوك اﻻشرار: انه شابه بهذا تصرف اخيتوفل صديق داود، ونلاحظ ان النبوات التي قيلت كانت تنطبق على تصرف اخيتوفل ايضا.
3- الكبرياء وقسوة القلب: كان فعل اخيتوفل منبعه الكبرياء: فلما رأى ان مشورته لم يؤخذ بها فعل ما فعل. ولما افاق يهوذا الى نفسه، لم يستعيد اي كلمة من كلمات الرب عن قبوله للخطاة، للزناة والعشارين.. بل في قسة قلب مضى وقتل نفسه، مثلما يفعل المنتحرون في كل عصر، وكل من يقتل نفسه باﻻدمان والخطية..
4- عدم التوبة: "قد اخطأت اذ اسلمت دما بريئا". اذن عليك ان تحاول ان تصلح خطأك، او على اﻻقل اذا شعرت انه ﻻ يمكنك ذلك، ان تلجأ الى الله، وهو يقدر على كل شئ، واذا لم يكن لك اﻻيمان ان الله يمكنه ان يقوّم المعوج، يمكنك ان تطلب منه الغفران، لكن لم يفعل شئ من هذا. نتعلم ان ليس كل من يعترف بخطأه ينال الخلاص، فقد سبق ان قال نفس لكلمة فرعون، وعاخان بن كرمي وكلاهما هلك. على المعترف ان يمزج اعترافه وتوبته بالرجاء. 
5- عدم الرجاء او اليأس: نجد ان الرب قال لبطرس "ابعد عني يا شيطان!" ومع ذلك نجد فرق كبير بين تصرف بطرس حتى بعد انكاره للمسيح ويهوذا. يهوذا ندم وبطرس تاب "بكى بكاءا مرا".
6- عدم اﻻيمان: يقول القديس اغسطينوس وهو يقارن بين اعتراف الشيطان بالمسيح واعتراف بطرس "اعتراف الشيطان لم يكن ممزوجا بايمان، واعتراف بطرس ممزوجا باﻻيمان". ونقيس على هذا توبة يهوذا لم تكن ممزوجة بايمان: ايمانه بالوهية المسيح واتمامه للنبوات.. وايمانه بقبوله للخطاة.

موضوعات ذات صلة:
قبلة الخائن