الأحد، 29 ديسمبر 2013

وردة قايين


دعوني اخبركم عن باتريشيا. اخشى ان الذاكرة لن تفصل بين باتريشيا الزهرة الصغيرة وبين باتريشيا الشابة اليانعة. كان محياها رقيقا دقيقا، كان شعرها اسودا لامعا، وعيناها كنجمتين شديدتي الزرقة حتى يتخيلها الناظر سوداوين، تشرف عليها رموش طويلة، تختفي روحها وراءها احيانا كملاك طاهر يغوص الى عمق عينيها الهادئتين. كان هيكلها نحيفا لكن على غاية من التناسق، لا ينقصه امتلاء، ليست طويلة. كانت حادة في طبعها. لا انسى تلك النظرة نصف المحزنة في عينيها. 

كان والدها صديق لي تاجرا ميسور الحال. عاش فترة طويلة بما يكفي للاحتفال بعيد ميلادها السابع. 
تقدم اليها رجلا ثريا ولكنه في اواخر العقد الاربعين من عمره بينما هي في الثانية والعشرين. رفض عمها اما والدتها فقد وافقت وتوسلت الى عمها الا يتدخل فى سعادة ابنتها. كانت ام باتريشيا قد اكتسبت - كما كل النساء- تجربة كبيرة فى موضوعات الزواج والحب. نصحت باتريشيا قائلة "يا بنيتي، الأفضل أن تكونى تعيسة مع رجل ثرى من أن تكون سعيدة مع رجل فقير. وهناك لديك حظوظ أكبر فى ان تكونى ثرية سعيدة. 
أجابت باتريشيا - وهى فتاة أوسع ذكاء مما تتصور أمها وزوجها المقبل- على سبيل الأستفزاز. 
- أمى، ليست الامور بهذه السهولة، ثم أننى اريد الأنخراط فى مهنة فنية، لا أن أبحث عن زوج . 
نظرت اليها امها نظرة شبه يائسة ! 
- صحيح ان المهن الفنية ممتازة للفتيات الشابات، لكنها تدوم ما دمت جميلة وتنتهى تقريبا فى سن الثلاثين. استفيدى اذا من وجودك هناك، وحاولى ان تعثرى على شاب ثرى ويحبك. تزوجى، أتوسل اليك. لا تفكرى فى الحب. فى البداية، لم أكن أحب أباك، لكن المال مفتاح كل شئ، حتى الحب الحقيقى . 
بالطبع، كانت باتريشيا مقتنعة فى صميمها أن الحب أمر جوهرى، لكنها لم تنس النصحية التى نصحتها بها امها بخصوص المهن الفنية. لذا تحاول ألا يكون حديثها عن الحب الا على صفحات يومياتها. على أى حال، كانت تفتش يائسة عن الوسيلة التى تجعل منها الأفضل، وتؤهلها للحصول على الكثير من المال فى القليل من الوقت. 


وقررت أن تكرس وقتها المقبل للأنكباب على دراسة أدارة الاعمال. فتحت الكتاب بحماس، لكنها لم تستطع أن تركز على القراءة. وسرعان ما طرحته جانبا لأنه كان مضجرا للغاية..  عندما عادت الى المنزل كتبت في يومياتها:
"لم يخلق الكائن البشرى فقط لكى يفتش عن المعرفة، بل لكى يستمتع بالحياة ويسعد الاخرين ايضا. فى داخلى أمرأتان، أحداهما تسعى الى بلوغ السعادة والمغامرات التى يستطيع الوجود أن يوفرها لها، والثانية عبُدة الرتابة والحياة العائلية والأفعال الصغيرة التى يمكن التخطيط لها وتنفيذها". 

.... و بدأت تطرق المجال الفني.... وبسبب جمالها انفتح لها الباب على مصراعيه.. وفي مدة قصيرة اشتهرت. 



..... دخلت يوما الي احد دور العرض، كان المكان أنيقآ وكان ثمن المثلجات يفوق بثلاث مرات ثمنه فى الأماكن الأخرى. طلبت فنجان قهوة ، وجلست ارتشف منه ببطء.... من بعيد لمحتني باتريشيا وتعرفت عليّ فانا صديق للعائلة وبادرتني بقولها: 
- انا سعيدة، سعيدة جدا. يعاملني كل الناس بالحسنى، و لا يجرؤ احد ان يظن فيّ السوء. انا حرة طليقة كالعصفور. ولكن ان سقطت سأفقد كل شئ وسأتسفل الى مستوى بنات الهوى. ومادمت ارتدي رداء الشرف لا يهمني شئ. اخبرتني ازيد من هذا دون ان تذكر اسماء- انه قد قدم لها عطايا ثمينة ومغريات وهبات ولكنها رفضتها جميعا فهي تقدر الفن وتحترم مهنتها. 
عندما سألتها عما يشغله الفن من قلبها قالت: 
- انني اعشق الموسيقى من صغري. الموسيقى جزء من حضارة البشر، لكنها لغة ليست منطوقة فقط وإنما منغمة أيضاً.. احب الباليه ايضا. الباليه هو أيضا نوع من الموسيقى نظرا للحركات الهادئة التي توحي بأنها موسيقى صامتة... 
- ولكن كثير من الناس شغوفون بالملاهي اليوم. 
وقاطعتني: و لكن ألا ترى انه من التشدد الا يقف الانسان ليرتشف جرعة من التسلية ويكون هذا ترويحا عن النفس؟ 
- نعم، ولكن جعل الملاهي الغرض الاسمى في الحياة هو الخطأ الشنيع. غير انه مع الاسف هذا ما وصلت اليه الحياة، صار السؤال الاكبر "كيف نسلي انفسنا؟" والجواب عليه اصبح الغرض من حياة الملايين. واستطردت في نوع من التفلسف: لم يعد الناس يشعرون بضرورة طلب القوت، لكنهم يتهافتون على اماكن اللهو طالبين التسلية واحيانا ينحدر او ينحرف الامر بالبعض للتسلية الرخيصة.


سددت الحساب، ثم شكرت الخادمة، وتركت لها بقشيشا.. ...... 


فى احد الايام انفتح قلبها لاول مرة للحب احبت شابا وسيما عمل معها في نفس الفرقة الموسيقية. وفي ذلك اليوم بالذات ايقنت باتريشيا ان حدثا جللا قد حصل، فدونت فى يومياتها هذه العبارات التى انتقتها بعناية:

"عندما نلتقى أحدهم وتقع فى حبه، نشعر ان الكون كله يطاوعنا فى هذا الاتجاه. هذا ما حدث لى اليوم عند مغيب الشمس. لكن اذا حدث خلل ما، فان كل شئ عندئذ يتلاشئ ويختفى ! يبدو الكون كئيبا والموسيقى الصادحة تتحول الى الحان جنائزية. ترى، كيف يمكن للجمال الذى كان حاضرآ بقوة ان يختفى بهذه السرعة ويتلاشئ؟ حقا. الحياة تمر مسرعة وتنقلنا من الجنة الى الجحيم، ولا يحتاج الامر الا الى ثوان معدودات.

.. لم يطل الامر كثيرا، فقد فترت علاقتهما سريعا، ثم جاء يوما سمعت فيه انه ارتبط باخرى، ... تظاهرت بعدم الاكتراث، وضحكت بدورها، حتى لو كانت روحها تبكى. 

وقفت برهة كأنها سمرت في الارض. تذكرت كم كان وسيما – واي وسامة، و لكن يا لعمق العذاب! هو الذي اقسم على حبها الى الابد، وخانها..! زمجرت في نفسها ووقفت وهي تهز يدها وتصر على اسنانها في غيظ و غضب لا حول لها، ماذا تستطيع ان تعمل؟ 
فارقتها الرقة اللطيفة التي كانت طبيعة لها، استيقظ عوض ذلك شيطان لعين لا يتورع عن الجرائم الشنيعة، تعطشت للانتقام. كانت لا تزال جميلة، لم يعد جمالا نبيلا، بل جمالا باهرا ماكرا، تسلحت بالحقد و بقلب بارد كالثلج وان كان يشتعل بالنقمة .. 

كانت تقف على شاطئ البحر تتلاطم الأفكار فى عقلها كتلاطم أمواج البحر خلفها . ترتدى بنطالا أسود ضيق وتى شيرت بنفس اللون . حول خصرها حزام عريض، وبين يديها استقر مسدس ماركة (ريفولفر). 

اتصلت به وطلبت مقابلته في احد الكازينوهات المطلة على البحر، فورا. تحادثت معه وهي في غاية الهدوء تستفسر عن سبب هجره لها و تغير قلبه من نحوها. و لم يعطها تبريرات كافية حسب اعتقادها. لقد خدعها .. ثم قامت من على المائدة.. كان المكان هادئ ولم يبق فيه غيرهما والنادل.. وبصوت يشبه قصف الرعد قالت "ايها الشقي، أعلى هذا النحو تصون وعدك؟. مدت يدها و سحبت مسدس كان في حقيبتها و صوبته نحوه.. 
إستعدت للضغط على الزناد.... قبل أن يأتيها صوت من خلفها : 
- تفتكرى قرار صحيح ما تفعلينه ؟ 
كانت المتحدثة فتاة فى أوائل الثلاثينات ، طويلة القامة بيضاء البشرة سماء الشعر .. ظهرت فجاه كأنما ظهرت من العدم أو سقطت من السماء ، او خرجت من البحر الثائر فسقطت أمامها فجأة. 
سكتت باتريشيا ثانية ثم قالت : انه لا يستحق الحياة.. سأقتله و اقتل نفسي. 
كان النادل قد لفت انتباهه الامر وامسك بيدها من خلفها بطريقة تمنعها من التصويب نحوه وانطلقت عدة رصاصات في الهواء وتجمع المارة.. وتم اخطار القسم وحضرت الشرطة و القي القبض عليها ووضعت في الحبس بتهمة الشروع في قتل.. وسارت القضية في مسارها القانوني من النيابة والقضاء .. خلال هذه الفترة كانت كأنها في حلم او كابوس لم تفق منه حتى سمعت الحكم عليها بالسجن 
..........
في السجن اتتها دعوة الله على فم خادم مسئول عن افتقاد المساجين .. علم بقضيتها، و فكر في نفسه:
هل يمكن ان تتغير حياتها الشريرة الى الفضيلة؟
هل ما سمعته عن تغيير المجدلية والسامرية ومريم القبطية يمكن ان يحدث لها؟
هل تحويل الهدف من التراب الى السماء ومن اللذة الى العفة يمكن تحقيقه ايا كانت الحياة التى يحياها والظروف المحيطة به؟
هذه الاسئلة وغيرها كانت تدور في ذهنه وهو ينصت الى دعوة الله داخله لافتقادها.. وقرر ان يطرق بابها وقبل ذلك باب الله المفتوح دائما بالصلاة، فركع على ركبتيه يصلي:

الهي الصالح.
انت الذي لا تشاء موت الخاطئ مثل ان يرجع ويحيا.
انت الراعي الصالح الذي تبحث عن الضال وتسترد المطرود وتجبر الكسير وتعصب الجريح.
انت الذي وعدتنا: من يقبل الىّ لا اخرجه خارجا .. وايضا قبلما تدعون استجيب وفيما تستغيثون اقول هانذا.
انت تستطيع ان تتكلم الى قلبها من خلالي.
استجيب يا الهي من اجل محبتك للخطاة وخلاصك العظيم.
لك المجد الى الابد. امين. 
 .......ذهب اليها وطلب زيارتها. 
- هل انت باتريشيا؟
 - نعم انا باتريشيا
- هل يمكن ان اتحدث معك قليلا.
اجابت بتهكم: وحضرتك عايز ايه؟
قال: انسان يترجى رحمة الله..
ضحكت ضحكة خاصة ثم قالت: اتفضل.
وبعد حوالي الساعة كان فيها الطرف الوحيد المتحدث بينما هي زائغة البصر، وشاردة الذهن، ولم تلفظ بكلمة، قالت:
لا امانع من زيارتك مرة اخرى.
وتكررت الزيارة مرة اخرى ليجدها بنفس المنظر تقريبا..
الى ان جاءت مرة بدأت تفرغ فيها ماض مظلم تحت قدمي الله في اعترف حقيقي بالخطايا.
احضر لها معه هذه المرة كتابا .. قرأت فيه هذه الكلمات:
"في المائدة المقدسة يعطي المخلص ذاته للنفس المؤمنة. انه سر مقدس واتحاد مقدس لا ينطق به. ان محبة العريس لعروسه مثال ارضي ضئيل. المسيح هو العريس السماوي وقلب المؤمن العروس، والحب الي يربطهما لا يعبر عنه، يملأ النفس ببركات هي عربون بركات السماء الكاملة".