محاضرة البابا شنودة بالكلية الاكليركية - منقول بتصرف
حدثتكم من قبل عن البدع التى قامت فى العصور الأولى للمسيحية. وأريد أن أكلمكم اليوم عن البدعة البيلاجية، البيلاجية نسبة إلى بيلاجيوس. بينما كان علماء اللاهوت فى القرن الرابع يبحثون فى اللاهوتيات وفى الثالوث القدوس ، ولاهوت الابن وطبيعة الابن، وكلها موضوعات لاهوتية، قامت هذه البدعة للدخول فى موضوع آخر تماماً، هو طبيعة الإنسان والنفس البشرية، وخطية الإنسان، ونتائج هذه الخطية، وحرية الإرادة، والنعمة، والعلاقة بين الإرادة والنعمة، كل هذه الموضوعات تطرق اليها الجدال.
بيلاجيوس هذا كان أصله راهب بريطانى من بريطانيا، وكان تقياً ناسكاً ، ومشهور بالقداسة والتقوى وبدعوة الناس إلى الروحانيات، شئ عجيب حقا، ان تجد كتير من الرهبان والنساك يدخلوا فى اللاهوتيات يسقطوا ويصبحوا مبتدعين مثل بيلاجيوس هذا وأوطاخى ، ما هو كان راهب وناسك ورئيس رهبنة فى القسطنطينية وانتهى إلى البدعة، وأيضاً فيما بعد نسمع عن يوحنا كاسيان ، إنه اتهم بإنه نصف بيلاجى، وكان راهب وناسك وحياته فى الأديرة وكان معه شخص اخر اسمه فوستوس ، وكان زعيم رهبانى ، ليت الرهبان يكتفون بالروحيات ، ويبعدوا عن الأمور اللاهوتية اللى بتتعبهم، إلا من كان فيهم قديراً على التحدث فى اللاهوتيات.
بيلاجيوس كان راهب بريطانى محب للتقوى ويدعو الناس للحياة المقدسة ، فكان يتعبه كثيراً إن البعض يقول أنا غير قادر ، أنا ضعيف، أنا مجرد بشر، أنا لا أستطيع ، الخطية شديدة والتقوى صعبة ، فلذلك تضايق من الناس الذين يتعللون بضعف الطبيعة البشرية ، وبدأ يتكلم عن قوة الطبيعة البشرية وقدرتها لدرجة إنه تطرف. فقال ان الطبيعة البشرية قوية والإنسان قادر على ان يحيا حياته كلها بدون خطية! ، وإن فى العهد القديم قبلما يأتي المسيح عاش قديسون بلا خطية، ونحن لسنا فى حاجة إلى معونة إلهية من الخارج لتقويتنا حتى نعيش بلا خطية، وهكذا أنكر مفعول النعمة.
وقال ايضا إن النعمة الحقيقية التى تعطى للإنسان هي إن ربنا خلقنا بهذه الطبيعة. اي ان النعمة الأصلية إن الله خلقنا بهذه الطبيعة التى في امكانها الا تخطئ، اما النعمة الاخرى فهى مغفرة الخطايا. ولذلك اختلف مع اثنين من القديسين هما القديس أغسطينوس والقديس جيروم. القديس اغسطينوس كان أسقفاً لمدينة هيبو فى إيبارشية قرطاجنة. كانت كنيسة مصر هى أكبر كنائس افريقيا في الشرق، بينما كانت كنيسة قرطاجنة اكبرها في الغرب. القديس جيروم أيضاً وقف ضده، القديس جيروم كان عنده رهبانيات فى أورشليم. ففى شمال أفريقيا وجد أغسطينوس وحينما ذهب الى فلسطين وجد جيروم، وهما الاثنان كانا فى خط دفاعي واحد.
بيلاجيوس خلال تعليمه عن قوة الطبيعة البشرية، وحرية الإرادة التى تستطيع أن تختار الخير من غير النعمة، أنكر الخطية الأصلية التى ولد الإنسان بها، كيف يولد إنسان بالخطية؟ اذا سيكون ضعيفا، فأنكر الخطية الأصلية وقال إن خطية آدم أضرت آدم وحده ولم تضر أحداً من نسله أو من أولاده، هذه نقطة تانية، وما دام أنكر الخطية الأصلية، يبقى أنكر فائدة المعمودية. وهذا يرينا ان الخطية سلسلة، خطية تقود لخطية .. الخ، لغاية لما يقع الإنسان فى مجموعة من البدع.
ولما أنكر بيلاجيوس المعمودية أنكر أيضاً حاجة الأطفال للمعمودية بالتالى، وبعدين قال إن الأطفال حتى غير المعمدين سيدخلون الملكوت. اذا لم يتوقف الامر عند حرية الإرادة وقوة الطبيعة البشرية ولكن الانسان لا يستخدمها، انما قال ايضا "إننا لو أنكرنا قوة الطبيعة البشرية، حينها نكون قد اتهمنا الله بـ "جهل مزدوج"، أنا آسف أقول هذا التعبير، لكنه تعبير بيلاجيوس، الذي قال نكون قد اتهمنا ربنا بانه يجهل طبيعة ما قد خلقه، وماذا ايضا؟ وجهله بالوصية التى اعطاها للناس، اذ انه اعطاهم ما يفوق قدرتهم. وعلى رأى الشاعر الذى قال عن الإنسان الذي يفتقد للقدرة على الاختيار وانه مسيّر، قال الشاعر:
ألقاه فى يم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء،
فبيلاجيوس قال الطبيعة البشرية طاهرة وتقدر تفعل الصواب في كل المواقف. وتستطيع أن تصل إلى الكمال أيضاً بدون النعمة. وقال انه مجرد إن المسيح يقول لنا "كونوا كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل"، اذا ما دام قد أمرنا بالكمال يبقى الكمال ممكن، إذاً طبيعتنا البشرية ممكن تصل إلى الكمال ، ونحن لا ننفي ذلك، لكن نقول ان طبيعتنا تصل للكمال بالنعمة، لكن بيلاجيوس لا يذكر عمل النعمة على الاطلاق. ويقول انه فى العهد القديم ، قال الله لإبراهيم أب الآباء فى دعوته له فى (تكوين 12): "سر أمامى وكن كاملاً" ، والله لم يكن ممكنا ان يقول له "كن كاملاً" إلا لو كان الكمال امرا سهلا وممكنا.
ولذلك لما قرأ على بيلاجيوس جزءا من اعترافات أغسطينوس التى قال فيها للرب: "أعط ما تأمر به" اي اعط النعمة التى تجعل الانسان ينفذ ما تأمر به. "أعط ما تأمر به وأمر بما تشاء" اي أمر كما تريد، لكن على شرط إنك تعطى ما تأمر به. لذلك بيلاجيوس الذي انكر عمل النعمة احتاج الى مجهود كبير من القديس أغسطينوس فى الرد عليه، وعلى البيلاجييين. لدرجة انه يوجد في موسوعة "أباء نيقية وما بعد نيقية" مجلدا كبيرا للقديس أغسطينوس تحت عنوان "ضد البيلاجية". ومن ضمن الكتب التى يحويها المجلد كتاب عن مغفرة الخطايا ومعمودية الأطفال والروح والحرف وطبيعة النعمة، ونعمة المسيح والخطية الأصلية وأصل النفس، وأيضاً أربع كتب ضد رسائل بيلاجيوس والنعمة وحرية الإرداة كل هذه المؤلفات من سنة 412 لسنة 426 يعنى حوالى 14 سنة كتب عن بيلاجيوس ، ومن منكم يحب ان يقرأ عن النعمة، عليه ان يقرأ ما كتبه أغسطينوس. طبعاً أغسطينوس تكلم عن أهمية النعمة بشدة لكي يرد على البيلاجيين، لكن نجد فيما بعد ان هناك بعض الطوائف التي تقول النعمة كل شئ ولا يوجد اهمية للأعمال ولا إرادة الانسان. ويكون هذا تطرفا من ناحية أخرى مقابلة.
أغسطينوس قال "على الرغم من كلام البيلاجيين، لم يوجد إنسان واحد وصل إلى كمال البر، فلابد من حاجة إلى معونة". والبيلاجيين يقولوا "لو تكلمنا عن النعمة يبقى الكلام عن معونة خارجية وليس عن معونة داخلية. داخليا الإنسان قادر على البر، لكن من الخارج تأتيه نعمة ليس لها علاقة بطبيعة الإنسان. وأنكروا الخطية الأصلية وقالوا ليس شئ ولد معنا، إحنا ولدنا ونحن قادرون.
نأتي لتاريخ هذه البدعة. هذه البدعة ترجع إلى أوائل القرن الخامس سنة 410 – 411 الى 426 م. بيلاجيوس كان راهبا بريطانيا، وكان يحيا فى رومية. وأفكاره هذه كان يعلم بها بالوعظ، ثم كتب كتاباً عن تفسير رسالة بولس ظهرت فيه أفكاره، لكن مع ذلك، الذى نشر أفكاره صديق له اسمه كلوستيوس وكان يعمل محاميا، وبدأ ينشر تعاليمه وسط العامة. وصل الحديث أيضاً إلى أغسطينوس الذي وقف ضد تعاليمه. وأخيراً هرب الصديقان إلى شمال أفريقيا، وبعد قليل ذهب بيلاجيوس إلى فلسطين وترك كلوستيوس فى شمال أفريقيا، وكلوستيوس كان يريد ان يصبح قسيسا. لكن ما قاومه شماس اسمه باولينوس اتهمه بالهرطقة، وذكر 7 قضايا تؤخذ ضده كهرطقة .
كانت النتيجة إن اجتمع مجمع فى قرطاجنة سنة 412 لمحاكمة كلوستيوس- تلميذ وصديق بيلاجيوس. انعقد المجمع برئاسة القديس أوريليوس، الذي كان رئيسا لإيبارشية قرطاجنة التى كان فيها أغسطينوس اسقفا على مدينة صغيرة تتبعها وتدعى "هيبو". هذا المجمع حرم كلوستيوس ، لم ينكر شيئاً من الاتهامات التى وجهت إليه، لكنه قال عن بعضها انها أمور موضع دراسة بين الناس ولا تصل إلى حدود الإيمان المعترف به. وهذا لم يقنع اباء المجمع فحكموا عليه بالحرم. رجع كلوستيوس لبلده واستطاع أن يقنعهم إنه يسيموه قسيسا، فرسموه قساً فى أفسس.
هذا يبين لنا مشكلة حدثت مرارا. أحياناً إنسان لا يصلح فى إبروشيته فينتقل الى إبروشية اخرى تسيمه ، مثلما حدث مع أوريجانوس، حين لم يسام فى الإسكندرية ذهب الى قيصرية الجديدة فرسم قساً هناك.
اثناء وجود بيلاجيوس فى فلسطين فى صيف 415م جاء قسيس أسبانى يدعى باولوس يحمل رسائل من أوغسطينوس إلى جيروم. جيروم كان موجود فى فلسطين، طبعاً القسيس الأسبانى لما وصل إلى فلسطين سألوه فحكى لهم مسألة حرم كلوستيوس فى مجمع قرطاجنة ، وإنه كلوستيوس اخذ التعليم عن بيلاجيوس، فاحضروا بيلاجيوس ليحاكم. انعقد مجمع برئاسة يوحنا الأورشليمى، واستدعى بيلاجيوس لكي يعلن إيمانه. وكان القس الأسبانى يريد احدا ليترجم له ، لكن هذا المجمع لم يصل الى قرار بشأن من بيلاجيوس ، وبيلاجيوس أنكر ما قيل فيه، اجتمع مجمع اخر فى مدينة اللد، واستدعى بيلاجيوس ، فأنكر أيضاً الاتهامات اللى وصلت ضده ، وعلى رأى أغسطينوس حينما قال:"ان المجمع حكم ضد الهرطقة مش ضد الهرطوقى". اي ان الهراطقة معترفين إن ما يقولونه هرطقة، وانتهى الأمر إلى أنهم تركوه بدون حكم. هذا الخبر وصل إلى شمال أفريقيا، الذين حكموا من قبل على كلوستيوس ، فاجتمع مجمعان ، مجمع حضره 69 أسقف سنة 416 م ومجمع آخر من 60 أسقف فى مدينة ميلا ، وهذان المجمعان حكم ضد بيلاجيوس بالهرطقة ، وضد كلوستيوس بالهرطقة.
لعل بعضكم يقول، اذا الموضوع انتهى. وصل الامر إلى روما. كان أسقف روما حينها هو انوسنت الأول، وأساقفة أفريقيا ارسلوا له تقريرا عن بيلاجيوس، فوجد إن بيلاجيوس إنسان هرطوقى، وكلوستيوس إنسان هرطوقى، فأيد كلام مجامع أفريقيا المكانية، وحكم بهرطقة بيلاجيوس وكلوستيوس.
بعد أسابيع من هذا الحكم مات إنوسنت وسيم زوسيموس مكانه. زوسيموس يبدو انه كان غير مدققا فى اللاهوتيات فحينما لجأ اليه بيلاجيوس، و كلوسيوس ، حكم إن إيمانهما سليم، وأرسل رسالة إلى أساقفة افريقيا شديدة اللهجة جداً، ويصفهم بالتسرع فى الحكم وطلب إعادة النظر فى الموضوع!
وإذا بأساقفة أفريقيا يعقدون مجمعاً من أكثر من 200 أسقف وبعثوا برسالة إلى زوسيموس يظهرون اخطاء بيلاجيوس. واتصلوا بالأمبراطور الذي حكم بنفى بيلاجيوس ونفى كلوستيوس، ونفى كل من ينضم إليهم فى الرأى وأسقف روما وجد نفسه فى مأزق ، ماذا يعمل؟
استدعاهما ولكنهما لم يحضرا لانهما منفيين , وأخيراً خضع لقرار الإمبراطور وحكم بحرمهم ، وأقر أيضاً لزوم المعمودية ووراثة خطية آدم، والأمور التى أنكرها هؤلاء. ووقع معه جميع اساقفة كرسيه ما عدا 18 فأمروا بنفى ال18 ، بعضهم رجع والبعض انتهى.
وظن البعض أن هرطقة بيلاجيوس انتهت ، لكن قامت مجموعة فيما بعد حاولوا أن يجدوا حلاً متوسطاً ما بين أغسطينوس وبيلاجيوس ، وهم من سموا بأشباه البيلاجيين، للأسف منهم يوحنا كاسيان، الذي كان تلميذا لذهبى الفم.