ابراهيم
المصري
قانعا
بحظه، سعيدا بزوجته وابنته، راضيا بوظيفته
الحكومية المتواضعة، الى ان دخل عالما
غير عالمه، واتصل بنفر من الشباب الاثرياء
المترفين.
ومنذ
ذلك اليوم تبدل كل شئ في حياته.
كان علاء
انسانا مرح الروح فكه الحديث، حاضر النكتة،
فراق طبعه لاولئك الشباب، وطابت لهم صحبته
فتوثقت بينهم على مر الزمن اواصر ود خالص
حميم.
والحق
انهم كانوا يتهافتون عى علاء، ويستعذبون
حديثه، ويستملحون نكاته ونوادره.
ولكنه
لفرط اغتباطه بصحبتهم، وزهوه بالاندماج
في بيئتهم، لم يشعر بتاثيرهم عليه ولا
بالتحول الذي طر على شخصيته، ولا بنشوء
تلك الرذيلة التي غرسها الوسط في صميم
قلبه وروحه.
كان
كل فرد من افراد هذه الجماعة شابا متعلما
ومثقفا، ومع ذلك فبيوتهم جميعا كانت شبه
اوكار للميسر واندية للقمار.
كان
علاء يلتقي بهم في معظم لياليه، فلا يكاد
يستقر بهم المقام في بيت واحد منهم، حتى
يرى المائدة الكبيرة تفتح، واوراق اللعب
تظهر، والرجال والنساء يتخذون مجالسهم
حول المائدة، وقد التمعت عيونهم، وتوترت
اعصابهم، وتهياوا في لهفة وحماسة لاستقبال
الحدث العظيم.
وكانوا
اذ ذاك يكرهون كل اسراف في المباسطة وكل
اسراف في الجدل والنقاش بل كل اسراف في
الحديث فيتناولون ورق اللعب بايدي مرتعشة،
ويسددون اليه عيونهم الفاحصة اللامعة ثم
يجتهدون في ضبط نظراتهم وحركاتهم كي لا
تبدو عليهم لمحة او بارقة مما يعتمل في
نفوسهم من سورة التحفز وحمى التوتر، ولوعة
الخسارة او نشوة الربح. وهذا
وهم جلوس حول الطاولة الكبيرة، يضرب الصمت
رواقه عليهم.
وكان
علاء يستغرب منهم هذا الضرب الرخيص من
الحياة، ويعجب لهم وهم من اهل الثقافة
والعلم، كيف لا يستطيعون السمو بافكارهم
والارتفاع باهوائهم بحيث لا تختم على
ابصارهم وبصائرهم رذيلة المقامرة الوبيلة
التي تخنق في الفرد كل تطلع اعلى.
بيد
ان هذه الرذيلة كانت طريفة.
كانت
ساحرة وغلابة. تحمل
في نظر علاء الفقير، صورة العظمة والتفوق،
ورمز المال والسلطان والجاه.
وكان
على استنكاره لها وخوفه منها، يشعر في
ذلك الوسط انه ماخوذ بها، منجذب اليها،
نزاع ال تجربة سحرها المتقلب الغامض.
اراد
في مبدا الامر ان يقاوم ، ان يعتذر ساعة
اللعب وينصرف، بل ان يستجمع قواه ويرتد
الى بيئته ويقطع صلته بهم.
ولكنه
كان يغار من اصدقائه المترفين، ويحسدهم
على ثرائهم، فكانت رغبة التشبه بهم تغريه
بالمقامرة، ورغبة التخلص من فقره تدفعه
اليها، ورغبة امتلاك المال من ايسر السبل
تزينها له.
وعلى
الرغم منه ، وفي لحظة من لحظات الانجذاب
والضعف وحب الاستطلاع ومخالسة المجهول،
ترك نفسه ينساق مع اللاعبين وهو يزعم كما
زعم غيره من قبل ان تلك الرذيلة لن تخضعه،
ولن تاسره، وان في وسعه بما له من ارادة
وحزم ان يسيطر عليها ويتحرر منها متى شاء.
وهكذا
بدأ يتمرس بشتى فنون الميسر في فضول يمازجه
الخوف. بدأ
يلعب في حيطة، ويقامر في حذر، ويتشجع في
بعض الاحيان ويغامر بمبلغ كبير، مداعبا
حظه، ساخرا بهواجسه، متحديا غدر الورق
المحفوف بالمخاطر.
وكان
يربح فيهزا بالربح، ويخسر فيهزا بالخسارة.
فلما
اتفق ان ازداد ربحه ، عظمت ثقته في نفسه،
فضاعف المبلغ، وعندئذ عانده الحظ.
راى
ماله يفر منه ، والحظ لا يقبل الا ان
يتحداه. فابى
هو الا ان يذلل هذا الحظ ويخضعه.
فجرفته
نشوة المجاهدة والكفاح. فانطلق
يقامر في تهور ليسترد ثقته في نفسه، ويغامر
بالجنيهات ليعوض خسارته، ويمعن في النضال
والكفاح ضد قوة لا يراها ولاتنفك هى ان
تحاوره..
وبات
اذا حمله تيار من الربح انعشه، تقاذفته
على الفور تيارات من الخسارة احنقته،
واشعلت كبره، واضرمت نارا في دمه.
وشيئا
فشيئا، ركبه شيطان المقامرة، ذلك الشيطان
العنيد المستهتر المتحدي فاحتوته رذيلته،
واستبدت به، وامست هي غايته وقبلته.
لم يعد
يجد في الحياة اي متعة.
فرضت
عليه المقامرة لذة واحدة.
اوصدت
امامه ابواب الحياة. حبسته
في سجن عجيب تارة ياخذ بخناقه، وتارة يلفه
في ضباب وظلام، وتارة ينفرج ويتسع وتمتد
رحبائه وتشرق عليه شمس لا يلبث ان يخد
نورها ويعقبه الضباب والظلام.
فكان
علاء بين ظلمة الخسارة وضوء الربح، ثم
توالى الخسارة، يعيش في سجنه وكأنه في
بحر صاخب هو العالم بل ما فيه من جيشان
الفرح والالم، والامل والياس، والنصر
والهزيمة، والمجالدة والكفاح.
وعبثا
حاولت امراته ان ترده الى صوابه، كان
يعذبها ويعذب ابنته الوحيدة بالشح
والتقتير. فكانت
الام تحرم نفسها، وتقتصد من مصروف البي
ما استطاعت وتنفق على الطفلة، خشية ان
تشحب وتضمر وترمق ما في ايدي بنات الجيران
من فاكهة وحلوى، بعين ملؤها التلهف والحسرة
والانطواء العاجز المكمد الذليل.
وامعن
علاء في غيه ، وطاب له ان يدعو اصدقاءه
مرة في الاسبوع للمقامرة في البيت،
فاعترضته زوجته. فناصبها
العداء، ونغص حياتها، واشتد في التقتير
عليها حتى تمكن في النهاية من اجبارها
على ان تنزل على حكمه، وتظهر امام اصدقائه،
وترحب بهم، وتسهر على خدمتهم.
ففي
ذات ليلة، وهم في بيته، تهور علاء ايضا
وقامر بجزء كبير من مرتبه.
فربح
مبلغا لم يكن ليحلم به. فابتهج
وقامر بنصف ما ربح. فربح
ايضا. فاغتر
وانتشى، وقامر بالكل فخسر الكل.
فتاه
عقله، وانخلع قلبه، وسدت في وجهه السبل.
لم
يستطع ان يسلم بالهزيمة بعد النصر.
لم يتيقظ.
لم يتبصر.
لم يرتدع.
فكر على
الفور في زوجته. فكر
في ان ينتزع منها مصاغها، ان يرهن او يبيع
المصاغ. ولكن
بؤس المراة هاله، وشقاءها اخجله.
فتهيب
وتراجع. بيد
انه في اليوم التالي اسرع ورهن خاتم زواجه،
ثم باع ساعته الفضية وكتبه ومكتبه ايضا.
فجن جنون
امراته، وتصدت له ضارعة، وذكرته بما اعانت
وما تزال تعاني هي وابنته من ضيق وبؤس.
ثم حاولت
ان تستخلص منه ولو بعض ما جمع من نقود قبل
ان ياتي الليل ويفد اصدقاؤه المقامرون.
ولكنه
انتهرها. فثبتت
في وجهه. فتطاول
عليها بالسب وكاد ان يضربها.
فامتثلت
المراة وهي تلهث وتزفر ولا تدري كيف يمكنها
ان تتهرب في اوائل الشهر من دفع ما تراكم
عليهم من ديون..
وما
ان هبط الليل واقبل الاصدقاء وتهياوا
للمقامرة، حتى اضطرم في نفس علاء شعور
الثقة بما يحمل من نقود. واراد
ان يثار لهزائمه، ان يؤكد قوته، ان يصرع
الحظ المخاتل الذي يعانده.
فاندفع
يقامر اندفاع المغامر المستميت.
ولكن
الزمام افلت منه مرة اخرى، فخسر كل ما كان
قد جمع، واستولى عليه شرود وذهول.
اخذ
الياس يخنقه. اسودت
الدنيا في عينيه. عز
عليه ان ينهض ويكف عن اللعب وهو مهزوم.
فاجال
البصر في رفاقه. فوقعت
عينه على صديقه الوجيه "عماد".
فارتعش
وتردد ولكن شهوته قهرته. فمال
الى صديقه. ولاول
مرة في حياته اذل نفسه لانسان، وطلب من
عماد ان يسعفه..
وكان
عماد هذا شابا في مقتبل العمر، وهبت له
الحياة المال والصحة والجمال.
فجفت
عواطفه، وقسا قلبه، وبات لا يحفل بغير
اللهو ولا ينشد غير التمتع.
وكان
مبذرا ومتلافا في استهتار واعتداد فاعجب
به علاء، واحبه لهذه الخصال، وراى فيه
دليلا على وجاهته. فلما
لجا اليه وكاشفه بحاجته، لم يتردد عماد
واقرضه فوق ما طلب. اعطاه
المال في لهفة بل في عدم اكتراث كما لو
كان لا ينتظر منه ان يرده.
فتنفس
علاء وارتمى في لجة المقامرة متهافتا،
وملء نفسه العزم على اخضاع الحظ، والسيطرة
على المجهول. بيد
ان هذا المجهول المخاتل، هذا المجهول
الساحر الغاشم، عاد يتعقبه ويضلله.
فكان لا
يكاد يربح حتى يخسر، ولا يكاد يخسر حتى
يلجا الى عماد، فيطيب عماد خاطره ويقرضه
ايضا..
وتعاقبت
خسائره، وتضخم دينه، وعجز عن السداد.
فاستمهل
عماد فامهله. ثم
عاد فاستمهله في قلق والتماس.
فسخر
الشاب من وساوسه. فعظم
فضله عنده، ولم يستطع الا ان يشكره لاهجا
ويطاطئ الراس امامه.
اياسه
حظه. اذلته
رذيلته. فامسى
شبه عبد لعماد، يداهنه ويتملقه، يسلبه
ويضحكه، يرعاه ويخدمه كي يصبر عليه ايضا
ولا يطالبه بوفاء الدين ويحرجه.
ولكن
عماد كان لا يطالب ابدا بشئ، بل كان كانه
لم يتفضل ابدا بشئ.
كان
يدخل بيت صديقه كما لو كان بيته.
غير انه
كان لا يدخل البيت الا ليزحف ويتسلل،
ويكتم ويخفي، وهو يرمق امراة علاء، ويحوم
حولها، ويطمع في اغوائا يوما وامتلاكها.
هذا وعلاء
المشدود الى رذيلته، والمكبل بها الضائع
فيها، المعصوب العينين الا عليها، لا يرى
ما يدور حوله، وما يجري في بيته، ولا يشعر
بالماساة التي بدات تتخبط فيها زوجته..
زوجته؟..
انه لفرط
هوسه بالميسر لم يعد يبصر ما هي عليه من
جمالز لم يعد يبصر فيها امراة ، بل طيفا،
شبحا، ظلا من الظلال. اما
"الست
وهيبة" فكانت
رائعة الجمال وكان عماد يشتهيها .
كان لا
يفتا يسعى اليها بهدوء..
واختبلت
المراة ولم تعد تدري كيف تتصرف.
لو امعنت
في الصد فقد يغضب عماد ويطالب بدينه، ولو
تجاوزت واغضت فقد يتمادى، ولو صارحت زوجها
فهو ، ضنا بصديقه وعجزا عن وفاء دينه له،
لابد ان يهزا بها ويكذبها، بل قد يتهمها
بانها هي التي اغرت الشاب بنفسها وهي التي
لم تعرف كيف تحتشم وتتحفظ وتترفع.
وحالفها
القلق والهم، وساورتها المخاوف كمن فوجئ
بداء وبيل اذهله،
(يستكمل)