ليس كل تذكر حسن. يقول الكاهن في صلاة القداس "ونجنا من تذكار الشر الملبس الموت". على النقيض تذكار الموت يعد مفيدا، انه ليس تشاؤما. انه فعل الحكماء الذين يذكرون اخرتهم. ولدينا في الكتاب مثالين عن اثين تذكرا الموت. وعلى الرغم من ان كليهما هلك، الا ان هذا يعطينا درسا بان تذكر الموت ليس كافيا، ليس هو حكمة في ذاته ان لم تصاحبه سيرة بمقتضى يليق مع تذكر الموت المهيب.
١- عيسو:
فَقَالَ عِيسُو: «هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ، فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟» (التكوين ٢٥: ٣٢). لقد تذكر الموت ولكنه لم ينتفع منه، اذ يصفه الكتاب بانه عاش مستهترا "ولا يكن احد مستبيحًا كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته» (عب-).
يالها من فلسفة عاطلة وغريبة! كأنه يقول هوذا الحاضر سريع الزوال فلماذا التمسك بالمستقبل؟ ها عمري قد دنا من نهايته فلماذا اهتم بالأبدية؟ «فاحتقر عيسو البكورية» كما احتقر اسرائيل بعده أرض الموعد (مزمور 24:106) ثم احتقر المسيح أخيرًا (زكريا 13:11): كما احتقر المدعوون إلى العرس الدعوة ورفضوها (متى 5:22). وهكذا نجد الانسان يستهين دائمًا بأمور الله لأنه لا يبالي ألا بالحاضر. "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا. (١ كورنثوس ٢: ١٤). فليس الانسان الطبيعي لا يقبل الروحيات بل انه يعتبرها جهالة ويحتقرها كما فعل عيسو.
الانسان الطبيعي عنده طبخة العدس أفضل من ميراث كنعان بجملته. أن السبب الذي أبداه عيسو وبموجبه احتقر البكورية، هو عين السبب الذي كان يجب أن يقيم عليه تمسكه الحريص بالبكورية؛ لأني متى تأكدت بُطل الحاضر فينبغي أن أزداد تمسكًا بالمستقبل. وهذا هو حكم ونظرة الإيمان «فيما أن هذه كلها تنحل أي أناس يجب أن تكونوا.. لكننا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البر» (بطرس الثانية 3). هذه هى أفكار الله؛ من أجل ذلك هى أيضًا أفكار المؤمن. أن هذه كلها تنحل، فماذا أذن؟ أتحتقر الأمور الغير منظورة أيضًا؟ حاشا؛ لأنه إذا كان الحاضر سريع الزوال فماذا بقى علينا ألا أن نهتم بالدهر الاتي.
لم تكن هذه صفقة صالحة، ذلك لأنَّ يعقوب حاول أن يشتري ما يملكه أصلًا وعيسو حاول أن يبيع شيئًا لا يمتلكه.
"فَبَاعَ بَكُورِيَّتَهُ لِيَعْقُوب". كان يعقوب مُذنِبًا في التَّخطيط لأعمالِ الجسد كي يربح شيئًا قال الله أنَّه يمتلكه بالفعل. بالرغم من ذلك، يجب أن نتذكَّر أنَّ الملامة الكبرى تقع على عاتق عيسو الَّذي ٱحْتَقَرَ ٱلْبَكُورِيَّةَ.
وهذه التي ركز عليها الوحي الالهي في نهاية الاصحاح، وليس على استغلال بعقوب للموقف.
يشهد التَّاريخ على رجالٍ يُفضِّلون الأوهام على الحقائق ويختارون الآن بدل الأبديَّة، وملذَّات الخطيَّة إلى حين بدل أفراح الله الأبديَّة. يقرأ الناس النفاية بدل كلمة الله ويلتزمون بنظام الأولويَّات الَّذي يُبعِد الله عن حياتهم. كثيرون من الرجال يقضون أوقاتًا طويلة في الحلاقة، مثلًا، بدل الاهتمام بأرواحهم؛ والعديد من النساء يقضين أوقاتًا طويلة في التَّبرُّج بدل الاهتمام بأبديَّتهنَّ الروحية.
يشبه بعيسو اولئك الذين يفقدون حذرهم مع تقدمهم بالعمر واقترابهم من الموت. انهم يشبهون الملاحون الذين يقودون قواربهم بامان في وسط عجيج البحر ولكنهم يغرقون على الميناء. فقدان الحيطة والحذر هو نفسه الاستهتار الذي وصف به عيسو . ان شخصيَّة عيسو كزانٍ مُستبيح وشخصٍ دنسٍ مُستهتِر (العبرانيِّين ١٦:١٢) تُظهِر صواب اختيار الله ليعقوب بدلًا من عيسو في حَمل البكوريَّة، بالرغم من أنَّ يعقوب كان الأصغَر.
٢- بلعام:
" لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ». (العدد ٢٣: ١٠).
كان بلعام متأثراً بما رأى من بركة الكثرة "مَنْ أَحْصَى تُرَابَ يَعْقُوبَ وَرُبْعَ إِسْرَائِيلَ بِعَدَدٍ" (ع 10، أ).تأثر ولو للحظة فقال "لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (ع 10). إلا ان البر لا نناله بكلمات قد تخرج جوفاء لانها بتأثر وقتي. ان معظم الناس يرغبون في هذا "موت الأبرار" ولكنهم لا يرغبون أن يعيشوا عيشة الأبرار لأنها حياة الانفصال عن العالم. "شعب يسكن وحده ومع الشعوب لا يحسب".
والدليل على ان بلعام كانت كلماته جوفاء لا صدق فيها. انه سقط في اول اختبار، فمع أنه كان هناك رفض حاسم للعن الشعب ولكن بالاق لم يعدل عن رغبته في لعن الشعب، وفكر بالاق أنه إذا لم يكن بالإمكان لعن كل الشعب فعلى الأقل البعض منه لذلك استحضر بلعام لكي يرى أطراف الشعب "فَقَالَ لَهُ بَالاَقُ هَلُمَّ مَعِي إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَرَاهُ مِنْهُ. إِنَّمَا تَرَى أَقْصَاءَهُ فَقَطْ وَكُلَّهُ لاَ تَرَى فَالْعَنْهُ لِي مِنْ هُنَاكَ". وترى بلعام الذي وصف نفسه بانه "الرجل المفتوح العينين", وكانه اعمى غشاوة طلت عينيه، فيسير منساقا وراء رغبة بالاق، رغم عظمة ما شاهده من بركة الله للشعب والتي ظهرت بصورة ملموسة في زيادة العدد. ظن لوهلة، ان من لم يستطيع ان يلعنه كله يلعن جزء منه. بأي منطق هذا او بأية حكمة؟ هذا هو حكمة البشر الباطلة. نسى بلعام ان "الله ليس إنساناً فيكذب أو ابن إنسان فيندم".
لماذا يلعنهم؟
هل لانهم اثمة وخطاة.
كيف ذلك وهم امة مقدسة؟ الا يكفى ان اسم الله دعى عليهم؟ الم يعلم ان الله يسكن وسطهم؟ الا يتذكر قسم الله وعهده معهم؟
الم يقول بلعام نفسه " أن الله لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل. (ع 21)؟ فكيف يستطيع ان يلعن من اختاره الله واختصه لنفسه؟
يفشل البلعام للمرة الثانية.. والانسان كما قال عنه الحكيم "يعيد حماقته".
وقد يخالجنا ان بلعام تأكد من المرة الثانية وعليه ان يكف. لكننا نراه للمرة الثالثة يكرر نفس خطيته. وقد نسأل، لم سمح الرب بان "يضع كلمات على فمه". ربما يعطي الروح القدس فرصة لكي يرسم أمامنا المزيد من جمال وجاذبية القديسين في البرية وهم مصورون كعمل الله. استحضر بَالاَقُ بَلْعَامَ إِلَى رَأْسِ فَغُورَ الْمُشْرِفِ عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ (ع 28) لم يكن بالاق يقدر أن يرى وقتئذ سوى البرية. كان ذلك يبدو أمامه لعنة موافقة، لم يكن يقدر أن يرى شيئاً من مناظر القدير الذي كان على وشك أن يصفها، ليس العجائب التي أعطى لبلعام أن ينطق بها بل عمل الله فينا حين نكون سالكين بالروح في البرية.
آخرة بلعام كانت منافية لما طلب أن تكون (انظر ص 31: 8) وهذا يدل أن الله يكره صلاة الأشرار ( أمثال 28: 9).
وختاما نقول،
احدهما تذكر الموت واحتقر بركة الدهر الاتي،
والاخر طلب ميتة الابرار واخرتهم ولكنه بحماقة سلك.
هلك، عيسو من اجل طبخة عدس
وبلعام من اجل محبة المال.