السبت، 7 يوليو 2018

يوميات الين -2


مر العامان التاليان بسرعة والين سعيدة. ربما شعرت بالوحدة لو توقفت عن العمل . لم تكن لها صديقات وكان لها قليل من المعارف. لا يوجد شئ يجعل شعر الانسان بشعر بالوحدة قدر العيش في مدينة كبيرة. ففي القرى الصغيرة، كل شخص يعرف سكان القرية اﻻخرين بل ويعرف قدر كبير من تفاصيل حياتهما. لكن وسط الملايين من سكان المدن الكبيرة يمكن ان يفلت الشخص من ملاحظة اﻻخرين.

اختارت الين الدراسة في احدى الجامعات بهذه المدينة. ولانها كانت قد انقطعت عن الدراسة لعدة سنوات لذا فقد كانت اكبر سنا من معظم الطلبة. وفي الجامعة حظت باهتمام قليل من الطلبة الذين يقتربون من عمرها. كان هدفها في الحياة يدفعها، انهماكها في عملها كان شديدا. اذ انها لم تشترك في انشطة المعسكرات بالجامعة. كانت طالبة مجتهدة في كل دراساتها: الانجليزية، علم النفس، الحساب.. مع ذلك، درست موادا اعتبرتها غير ضرورية ومملة، ولكنها يجب ان تدرسها كجزء من اعدادها لسوق العمل. ومن بين المواد التي درستها اكثر ما كانت تحبه هو علم الاحياء.

نال الاستاذ نيقولاس العجوز، وهو عالم شهير الف العديد من الكتب العلمية، اهتمام الين. كما وجد الاستاذ فيها خير مساعد يعينه في مهمته العظيمة التي خصص لها باقي سنوات حياته، فقد نوى الاستاذ ان ينشر كتابا يقدم فيه للاجيال القادمة العلم الذي اكتسبه بعناء خلال سنوات ابحاثه ودراساته الكثيرة. اشتاق ان يجد شخصا يساعده – شخص له نفس رؤيته وعقليته ويحقق احلامه.

مهارة الين في استخدام الميكروسكوب وآلة التصوير جعلا الاستاذ يعتقد ان السماء ارسلتها اليه لتحقيق هدفه. لذا فقد عملا معا في المعمل، وكثيرا ما كانا يعملان الى وقت متاخر من الليل. سر الاستاذ كثيرا بصبر الين ومثابرتها وكان ممتنا لله انه ارسل اليه هذه الفتاة التي صارت له مساعدة لا تقدر بثمن.

سلوك الين طالما كان محيّرا للاستاذ نيقولاس. لذا فقد سألها يوما، مراقبا وجهها المتالق وعيناها اللامعتان، وقد انحنت على عينة موضوع على شريحة تفحصها تحت المجهر:

"انسة الين، لماذا تعملين باجتهاد هكذا؟ الم تذهبي قط الى تلك الفاعليات والانشطة التي يحب الشباب حضورها؟"

اجابت في الحال:

"لا"

استمر الاستاذ يقول:

"انا مسرور جدا بوجود انسانة مثلك تهتم جدا بعملها الى جانبي، وخاصة ان عيناي بدات تكل ولم اعد اعتمد عليها. لكن حتى لو كنت نصف اعمى انا متاكد ان اي فتاة جذابة مثلك تريد ان تقضي بعض الوقت في رفقة شاب تحبه. هل لا تعرفين مثل هذا الشخص؟

"لا، لا اعرف مثل هذا الشخص، وبصراحة انا غير مهتمة. انا لا اريد ان افكر حتى في الرجال. لقد عاهدت نفسي انني سوف امنح حياتي للعمل وسوف افعل هذا. لقد كنت دائما افعل ما اقول، وسوف افعل ما قررته".

فوجئ استاذ نيقولاس بالطريقة التي اجابت بها الين. وتابع كلامه بهدوء:

"حسنا، انسة ستيوارت، انا معجب بشجاعتك واصرارك، لكن هذا شئ صعب."

ثم ازاح عمله جانبا وحدق ببصره فيها بينما يقول:

"الحياة الطويلة التي عشتها علمتني اننا لسنا دائما نعمل ما نقرره، وننفذ ما نتعهد به".

قالت باصرار، فيما تضبط عدسة مجهرها:

"اعتقد انه يمكننا ذلك لو عملنا باجتهاد."

استمر الرجل العجوز وعيناه محدقة بها:

"حتى لو وضعنا في الاعتبار انه ربما يعترض سبيلنا عقبات تقف امامها عزيمتنا لا حول لها؟"

سألت ببرود:

"على سبيل المثال؟"

صمت لبرهة ثم اجاب ببطء:

"حسنا. ربما يوجد نقص مال.. الضعف الجسدي في فترة الشيخوخة مثال اخر، او يوجد – الموت. بالتاكيد ارادتك لا يمكن ان تقهر الموت".

"نعم، بالطبع انا لست حمقاء بدرجة تجعلني اعتقد ذلك. لكن قبل ان اختار عملي انا واجهت الموت – في الحقيقة، انها كانت واحدة من الامور الفارقة في حياتي. موت عمتي الهمني بان اكرس حياتي لمحاربة المرض الذي ماتت بسببه. بموتها ورثت ايضا المال الذي سوف يمكنني من الدراسة واعداد نفسي لتحقيق هذا الهدف.. وبالنسبة للضعف الجسدي انا لست قلقة في الوقت الحالي. انا انوي ان اعيش بهدوء، ادرس بجد، اعمل على تحقيق هدفي. وسوف احققه. لن استسلم ابدا".

اجاب الاستاذ بلطف:

"حسنا، انسة ستيوارت، باركك الله في طموحك! لقد كرست انا حياتي كلها لسبب اعتبرته يستحق، لكن الان اصبت بضعف الابصار والهرم، ساذكرك في صلواتي.".

رفعت راسها من على المجهر وانفرج ثغرها عن ابتسامة:

"صلوات؟"

"نعم. الا تصلين لاجل عملك؟"

" لا، لماذا اصلي؟ لماذا يجب عليّ فعل ذلك؟ انا ابذل جهدي. كيف للصلاة ان تساعدني؟"

"صعب ان اشرح الصلاة لشخص لم يختبرها. الله خلق كل هذه الاشياء التي حولنا. بدونه لا شئ وجود له. انه كلي الصلاح والحكمة. لسنوات عديدة اختبرت احتياجي الشديدة الى ان يكون بجانبي. اشعر انني ضعيف تماما وعاجز عندما اقف امام عجائبه. لذا سوف اصلي له ليقودني في عملي"

انحنت الين على مجهرها في صمت لدقائق قليلة. ثم تكلمت ببعض التردد:

"اعتقد اني افهمك. ولكني حتى الان لا ارى الامور هكذا. انا اؤمن بالله، بالطبع. دراسة العلوم جعلتني متاكدة من وجوده. هذا الكون المصمم جيدا والمملوء عجائب لا ياتي ابدا بالصدفة. انا احترم قوانين الطبيعة بدرجة كبيرة تجعلني لا اشك في وجود الله، لكن هذا بقدر فقط يكفي لان يجعلني اسايرك فيما تقول. هذه القوانين التي لا تتغير تتحكم في كل شئ. اعتقد انني لو عملت بجد كاف سوف احقق الامور التي اريدها. لكن.."

استطردت وقد ظهر في صوتها فرحة عارمة:

"سوف يحتاج هذا الى العمل وليس الى الصلوات"

الاستاذ المسن لم يجب. السنوات علمته. هذا الرأس الأشيب المنحني بدأب على الطاولة تعلم ان ينحني تحت الظروف الصعبة قبل ان يدرك معناها الحقيقي. عرف ان مزيد من الكلمات لن يجدي في هذا الموقف. لذا فقد قال بأدب بالغ:

"سيأتي اليوم عندما تحتاجين فيه الى معونة. انسة الين، ربما يريحك ان تتذكري حينها ان استاذك صلى – ليس فقط من اجل عمله - لكن من اجلك".

مر وقت طويل لم يمنح فيها احد الين مثل هذا الاهتمام الشخصي. هذا اللطف الغير متوقع لمس قلبها بعمق. لذا فعندما شرعت ترد على كلماته كان هناك حشرجة في صوتها:

"اه، اقدر لك هذا، ومن فضلك لا تضع املا كثيرا على هذا. انا حقا لا اهتم بهذا. انا وحيدة واود لو لدي وقت كاف لامور اخرى. لو يمكنني ان اؤمن بالصلاة، ربما صليت وتركت الله يعمل العمل بينما استريح انا. لكني لا اؤمن ان الامور تجري بهذه الكيفية. انا ساعمل بنفسي. انا ممتنة لاهتمامك. لو ان صلوات اي شخص استجيبت، اعتقد انها ستكون صلواتك" ثم ابتسمت بينما تقول:

"انت تصلي، وانا اعمل".

قال الاستاذ:

"بجد، انسة. اعتقد انك سوف تعملين بشكل افضل لو اخذت اجازة في احدى الامسيات تذهبين فيها الى حفلة او ما الى ذلك"

كانت الين تقدر نصيحة الرجل العجوز، ولانها كانت وحيدة بالفعل بدات تعمل صداقات مع اشخاص كانت من قبل تعتذر لهم بالمشغولية عندما يحاولون التقرب منها. وحالا اصبحت تتلقى دعوات لحضور حفلات، وامسيات موسيقية، ومسرح، و.. تنبهت الين انها كانت قد فقدت التواصل الاجتماعي مع الاخرين. الاستاذ نيقولاس كان صائبا، لقد عملت بشكل افضل بعد هذه الاوقات الترفيهية.