الجمعة، 6 يوليو 2018

يوميات الين -1


وقفا اليكس وجين يرقبان المحاولات الحثيثة لابنتهما الين للوصول الى الكرة التي تدحرجت بعيدا. زحفت الين باتجاه الكرة وبمشقة بالغة استطاعت ان تمسك بالكرة. ضحكا الاثنان وصفقا بايديهما اعجابا وتشجيعا فيما راحت الفتاة تلعب بالكرة بعض الوقت. وبعد فترة استبد بها التعب فتركت الكرة واستسلمت لنوم عميق وابتسامة ملائكية تظهر على وجهها الصغير. عندئذ قالت جين لزوجها:

"بهذا الاصرار تنال ابنتنا اي شئ تريده. لقد حاولت باصرار الامساك بالكرة، وها هي قد حصلت عليها في النهاية!".

ابتسم اليكس بفخر وهو ينظر الى ابنته، ثم ما لبث ان زايله تجهم عندما خطر له خاطر مفاجئ، فقال بنغمة من الالم في صوته:

"اتمنى الا تكون ابنتنا مثل عمتها راعوث حين تكبر".

كانت راعوث اخت اليكس الكبرى، فتاة جميلة مرحة محبوبة من والديها. وخلال سنى الطفولة ملأ صدى ضحكاتها هي واخويها ارجاء البيت. خلال هذه السنوات كان اليكس ستيوارت يعتبر ما تفعله راعوث هو الصواب دائما. لكن في السنوات الاخيرة شعر بثقل الحمل الذي وضعته عليه محبته الشديدة لها. فقد اعتادت والدته ان تقول "عندما ترغب راعوث في شئ تحاول بشتى الطرق حتى تناله". لمدة خمسة عشر عاما عاشت راعوث بارادة قوية لا تلين ولكنها محملة بالشعور بالمرارة. فلقد مات زوجها منذ سنوات عديدة، لكن تأثيره بقى فى حياتها. ما زالت راعوث تتمتع بجمال وجاذبية وفي امكانها الزواج مرة اخرى ان ارادت، كما ان لديها المال الكافي لتعيش حياة رغدة، ولكن المرارة التي في قلبها سممت نظرتها للحياة. ويبدو ان عيوب رجل واحد جعلها تنفر من كل الرجال. الطاقة التي كان يجب ان تستخدمها في الخير استنفذت في الكراهية، والضحك والمرح اصبحا الان كآبة وسخرية لاذعة.


بدى شعور بالقلق في صوت اليكس بينما يرفب ابنته الرضيعة الين، كان للفتاة حتى في مثل هذه الامور الصغيرة كالزجاجات الضائعة والكرات المفقودة، نفس اصرار عمتها راعوث. قال "تكون الارادة القوية ميزة لو استخدمت بطرقة صحيحة. كان يمكن لاختي راعوث ان تصبح سيدة اعمال، وربما زوجة سعيدة ايضا لو انها استخدمت هذه العزيمة بطريقة افضل".

سحبت جين الغطاء على ابنتها الصغيرة. و بينما هما يغادران قالت في نغمة من الايمان الهادئ "يجب ان نصلي كثيرا لطفلتنا الجميلة، ان يهديها الرب ويعطينا الحكمة لنربيها حسنا".

***

مات والدي الين وهي لا تزال صغيرة في حادث مأساوي اثناء رحلة لهما بالقطار. كانت العمة راعوث هي القريب الوحيد الذي تبقى في العالم لرعاية تلك المخلوقة الصغيرة. في البداية شعرت برهبة مسئولية ان تربي هذه اليتيمة الصغيرة. لكن القلب الذي اعتقد انه اغلق للابد امام العاطفة انفتح تدريجيا، على مصراعيه، امام لمسة من يدي الرضيعة. وحالا اغدقت العمة راعوث على هذه المخلوقة الصغيرة الرائعة، كل مشاعر الحب الدفين والذي طفى فوق طبيعتها الغليظة. ابتدأت تخطط وتحلم من جديد - هي التي اعتقدت ان احلامها جميعا انتهت. اضحت الان في قمة السعادة من اجل اكتشاف مصدرا لانفاق الثروة التي كانت تمثل ثقلا عليها من قبل. يمكنها الان ان تعطي للصغيرة كل فرص الحياة التي رغبت فيها لنفسها من قبل. هذه الطفلة تتربى في كنفها – وسوف تشكلها بطريقتها، ولا احد يستطيع ان يمنعها!

ثم بدأ الصراع الذي استمر اكثر من 20 عاما. فعلى الرغم من تصادم الرغبات، كان يوجد حب طبيعي متبادل بين الطفلة وعمتها. قلب العمة الملئ بالمرارة انفتح على مصراعيه امام الطفلة اليتيمة، فسكب عليها عاطفة لدرجة بلغت ان كرست حياتها بالكامل لها. لعبت العمة راعوث مع الين، عملا معا في حل المسائل الرياضية، وحفظ المعادلات الحسابية، ضحكا معا على المواقف المسلية في المدرسة او في اوقات اللعب. وتخاصما وان كان ليس بكلمات غاضبة او نزاع صاخب، بل بتصميم قوي من كلا الطرفين. بالطبع عندما كانت الين صغيرة، عادة ما كان للعمة راعوث طريقتها لحل الخلاف وكان نادرا، اذ ان حبها للطفلة كان عظيما بدرجة جعلها تعارضها فقط حينما كان يكون ذلك ضروريا- عندما كانت الين تصمم على اخذ تلك الحلوى الحمراء اللامعة المعروضة في واجهة العرض بمحل الحلويات، تتغلب العمة على هذا الرفض بشراء علبة كبيرة من الشكولاتة الفاخرة اللذيذة. مع ذلك، فقد كان هناك صدامات بينهما لم تمحى من الذاكرة وتركتهما الاثنان مرضى.

احد هذه الخلافات التي لا يمكن ان تنسى اتى عندما كانت الين في الصف الدراسي الاول، عندما جلست امام صبي صغير يرتدي قبعة حمراء جذاب يسمى جاكي دينيس. خلب جاكي بشعره البني الطويل قلب الين. ونالت اعجابه الين بالهدايا الصغيرة - كرات اللبان والاقلام التي كانت تقدمها له الين. وفي احد الايام قدم لها هدية خاتما اشتراه بسنت واحد من متجر المرسة.

صنع الخاتم الصغير ازمة، اذ انه عندما وصلت الين للبيت ذلك اليوم اظهرت لعمتها بفخر الخاتم واعلنت انها عندما تكبر سوف تتزوج من جاكي. لم تكن الطفلة مهيأة على الاطلاق لتلك العاصفة التي نزلت على رأسها من الغضب. ثم كانت هذه القائمة من الاوامر:

"لا يجب ان تفكري في هذا الصبي مرة اخرى. لا تمش معه الى المدرسة مرة اخرى. لا تتكلمى معه".

قالت الفتاة العنيدة:

"لا، سوف افعل ما اريد".

"لن تفعلي"

"سوف افعل"

هذا العراك دام اسبوعين وكان لا يزال مستمرا عندما انتهى العام الدراسي. لكنه انتهى بتلك الفرحة في قلب العمة عندما غادر الصبي المدينة اثناء العطلة الصيفية.

في سبتمبر فاجأت راعوث الين بخبر انهما لن يذهبا بعد الى البيت الكبير في بوليفارد. لقد اشترت العمة راعوث بيتا جديدا في احد ضواحى المدينة. "احد اهم مميزاته" كما قالت العمة لالين "مايك وماري ، سوف يكونان طباخين، وسوف يسكنان معنا في شقة فوق الجراج. وهذا ما نريده، اليس كذلك، يا عزيزتي؟"

بالنسبة لالين كان البيت الجديد كأنه ارض العجائب. المرج الاخضر حوله والحديقة المملوءة بالازهار. الاشجار الكبيرة المملوءة بالعصافير المغردة. في هذا البيت كان لالين اجمل غرفه اطفال.

بالطبع، اضطرت الين للذهاب الى مدرسة اخرى. قضت شهرا من الزمان في البيت الجديد قبل ان تدرك ان عمتها نجحت في ان تمنعها من روية جاكي دينيس مرة اخرى. ولذا فقد استشاطت غيظا. وقالت بلهجة بها تصميم:

"سوف اهرب على اية حال، سوف اسأل عن الطريق واعود الى بوليفارد وسوف اعثر على جاكي واعيش معه للابد".

ولكن قبل ان تتاح لها الفرصة ان تحقق خطتها، اشترت لها عمتها الدراجة التي حلمت بها منذ فترة طويلة. وفي غمرة الفرحة بالحصول على الدراجة وتعلم ركوبها، اضمحل غضبها وتلاشى شيئا فشيئا. ثم قابلت زملاء دراسة اخرين لفتوا انتباهها ونالوا اهتمامها مرة اخرى. واخيرا تلاشى جاكي ذو الشعر الاحمر وكرات اللبان من الذاكرة. لكن بقى القليل من الاستياء في قلبها.

ثم، عندما بدأت دراستها الثانوية، قابلت دالي ترومان. كان صف ترومان يخطط لاقامة حفل "الهالوين" في صالة الالعاب الرياضية، وطلب دالي من الين ان تكون رفيقته في الحفل. وفي فرحة وبراءة جاءت الين الى عمتها قائلة:

"عمتي، صفنا سوف يقيم حفل الهالوين، واظرف فتى في الصف، دالي ترومان، طلب مني ان يصحبني. هل اذهب معه؟"

ولكن سرعان ما انكسر قلبها وهي تقرأ ملامح وجه عمتها قبل ان تقول:

"لا، حفل الهالوين، لا اعتقد انه سيكون من الصواب ان تصحبيه. يمكنك ان تقيمي الحفل هنا في البيت وتدعي صديقاتك اليه"

"لكن، عمتي – "

قالت بابتسامة خبيثة:

"الان، لا تحاولي ان تجادلي معي. عمتك تعرف الصالح لك".

"لا. سوف اذهب. كل الفتيات سوف يذهبن، وكثيرات منهن سوف يرافقن فتيانا".

قالت بلهجة حادة وبكلمات فيها التصميم الواضح:

"لن نناقش هذا الامر مرة اخرى".

تلك الليلة بكت الين وبثت خيبة املها الى وسادتها. بكت كما لم تبكي من قبل. فجأة تذكرت شيئا لم تفكر به منذ زمن، تذكرت فتى كثيرا ما لاحظت اعجابه بها في المدرسة. الاستياء الذي تلاشى منذ زمن، تاجج الان ثانية. انها طفلة مهذبة وعلى الرغم من تصميمها على تحقيق رغباتها، الا انها استسلمت وراحت تفكر وهي مستلقية على فراشها، ودموعها تبلل وجهها، راحت تعيد ذكريات من شريط حياتها لمواقف عديدة، وادركت ان معظم لعبها المحببة ورحلاتها المبهجة لم تكن الا وسيلة استخدمتها عمتها لتنسيها اعجابها بالفتى دالي. ثم همست:

"انها كانت تخدعني طوال هذه السنوات. الطريقة الوحيدة التي احصل بها على اي شئ مثل البنات الاخريات هو ان استخدم بعض الخداع! ليس من المجدي ان اتملق. فهي لن تغير رأيها. لقد باعت البيت في المدينة وانتقلت الى هنا لتتخلص فقط من جاكي، وسوف تاخذني الى اوربا لتبقيني بعيدا عن دالي! سوف اخدعها انا ايضا".

هذا الخاطر المفاجئ الخاص بخداع عمتها رسم على ثغرها ابتسامة ماكرة بينما كانت مستلقية على فراشها في الظلام. لكن، على الرغم من انها تعلم ان ما تفكر به خطأ، الا انها لم تطرده عنها، وفيما هي مستلقية على فراشها رسمت خطتها، وللحال راحت في النوم واثار دموعها لا تزال على وجهها.

مرت ايام عديدة، ولم تتذكر الحفلة. ثم وفي صباح احد الايام، على مائدة الافطار، طلبت من عمتها طلبا:

"عمتي، هل يمكنني قضاء هذه الليلة مع روز مارتيلو؟ انها في حاجة الى من يساعدها في اتقان الانجليزية. لا احد يتحدث الانجليزية في بلدها وتجد صعوبة في تعلمها"

سألت العمة بحرص:

"من هي روز مارتيلو، يا صغيرتي؟"

"الا تتذكرينها؟ انها الفتاة الصغيرة ذات الشعر الاسمر التي عزفت على البيانو عندما كانت الفتيات هنا بالامس".

"اوه، نعم، اذكر. ولكن هل هي من الفتيات التي احب ان تكوني صديقة لهن؟ وهل امها ترغب في صداقتك لابنتها؟ تبدو روز لي انها فتاة صالحة لكني لا احب ذهابك هناك في حين انني لم التقي بامها من قبل."

استطردت قائلة:

"انها فتاة طيبة، يا عمتي، والسيدة مارتيلو سيدة ظريفة ايضا. ذهبت هناك مرتان بعد المدرسة. انهما ايطاليان، وامها لا تتحدث الانجليزية. ولذا لو حاولت الاتصال بها ربما لن تفهم ما تقوليه. عندما ياتي احدهم الى المنزل تبقى صامتة وتترك روز تحدثهم. لكنها لطيفة معنا نحن الفتيات. وانا في الحقيقة ارغب في مساعدة روز في تعلم الانجليزية."

ولذا فقد وافقت العمة راعوث، وهي لا تعلم ان الين اختارت صديقتها روز لتكون شريكا لها في خطة خداعها. في المقابل اعطت الين صديقتها روز دولارا لكل ليلة تقضيها عند عائلتها. اما السيدة مارتيلو الطيبة، التي صادقت الكثيرين من الجيران على قدر الامكان، فمن خلال الوصف التي تلقته من الين عن العمة راعوث – وصفا جعلها تبقى بعيدة عن الاتصال بها – والا كانت ستصدم من معرفة مقدار المال التي انفقته الين على الحلوى والمثلجات.

ولان العمة راعوث دوما على صواب اصرت على عودة الين لضيافة روز، هذه الصفقة كانت مربحة جدا لروز من كل الاوجه. درجاتها في المدرسة ايضا ارتفعت، بالنسبة لالين، لكي تريح ضميرها، اصرت على ان روز تذاكر دروسها حتى وقت متاخر بالليل، في حين انها كانت تدفع النقود لانكار حضورها تلك الحفلة او غيرها مع ذلك الفتى او غيره من زملائها بالمدرسة.

لكن العمة راعوث لم تكن لتخدع طويلا بهذه الخطة. ولكنها استراحت اذ تخلصت من موضوع دالي. وكانت سعيدة ان الين نقلت اهتمامها الى صديقة من الفتيات – حتى لو كانت اجنبية.

سرعان ما سأمت الين من دالي بالطبع، ثم كان هناك جوردون وجون واخرون بالتتابع. كانت الين جميلة ومشهورة، وعلى الرغم من القيود الاخلاقية التي فرضتها عليها عمتها الا انها عندما تكون مع الفتيان كانت تتصرف وكأن العمة راعوث موجودة معها وباصرار مميز فعلت ذلك، ولهذا احترمها الفتيان وفكروا فيها على انها النوع المثالي من الفتيات، وان كان الكثيرون نظروا اليها ايضا على انها فتاة منغلقة.

خلال الدراسة الثانوية كان لالين وعمتها اوقات رائعة قضياها معا. قالت الين يوما لواحدة من صديقاتها:

"العمة راعوث عجوز. لكن في هذا الموضوع الوحيد، العلاقة بالفتيان، هي مجنونة. الطريقة الاسهل لمسايرتها الا اخبرها. حتى لا تتاذى مشاعرها ولا يكون بيننا صدامات"

بعد سنوات نظرت الين لهذه السنوات من حياتها بندم شديد، مدركة انها كانت الاساس لمآسي السنوات التالية، وربما ادت الى نتائج كارثية في الوقت الحاضر لولا انها اكتشفت عالما جديدا - عالم يحيا ويتحرك خارج مدى رؤية الحياة الانسانية العادية، العالم العجيب الذي تراه فقط من خلال عدسات المجهر.

كان الاستاذ ثورن مدرس العلوم ذو شخصية جذابة. احب عمله جدا وكان له مهارة مذهلة فيه. فتح نظر الين على مخلوقات الطبيعة العجيبة، اعتبرها تلميذته النجيبة وخصص لها وقتا اضافيا، اراها كيف تستخدم المجهر وتلتقط صورا لما تراه من خلال الكاميرا الملحقة. في خضم اهتمامها الجديد نسيت الين صديقتها روز كما نسيت اصدقاءها من الفتيان. وفرحت العمة روث بهذه الهواية وقدمت لالين المال والتسهيلات اللازمة، فقد خصصت احد حجرات المنزل كاستديو تصوير فوتوغرافي. وبين هذا المعمل المنزلي ومعملها الرائع في المدرسة انقسمت ايام الين ولياليها. بل انها اصطحبت يوما عمتها لجلب عينات. ولم يمضى وقت طويل حتى تحمست عمتها لهذ العمل الجديد تماما مثل حماس الين.