ما ان اذنت الشمس بالمغيب، حتى خرج الرهبان كل من قلايته، في لباسه
الاسود حاملا على رأسه قلنسوة، ممسكا بيده عكازه.. الكل يسرع ليبتعد حتى يحظى
بجلسة هادئة يتأمل فيها اعمال الله.
مرت دقائق واذا بالكل اختفى او كاد يختفي... ولكن شخصا واحدا هرما
كان قد اتكأ على عكازه، بالكاد تتحرك قدماه... عيناه قد ارتفعتا الى فوق تتأملان
الشمس في اجمل لحظاتها وهي تقترب من المغيب وترسل اشعتها القرمزية فتسطع على رمال
الاسقيط لتحيلها الى حبات من الذهب المنثور..
بدأ الشيخ يناجي الله قائلا: "يا لمحبتك الابوية يا خالقنا!
لقد اعطيتنا هذه الشمس فانارت ظلمات الدنيا وبعثت في الارض حياة"
سجد الاب الراهب في خشوع ورهبة، ثم انتصب في ثبات ورفع عينيه الى
السماء مناجيا..
"ربي ، السموات تحدث بمجدك والفلك يخبر بعمل يديك..
يوم الى يوم يذيع كلاما، وليل الى ليل يبدي علما"
وعندئذ صمت الاب وجال ببصره في البرية واذا بالرهبان متناثرين مثل
الكواكب التي ترصع جلد السماء.. كان يسمع ترانيم شجية وتسابيح فرحة.. اهتزت نفسه
اذ رأى اولاده البالغين اكثر من 10000 ابن في الرهبنة، وكلهم يناجون الخالق – تبارك اسمه.
وعندئذ بدأ يفكر : "يا ترى هل انا بين ملائكة ارضيين ام بشر
سمائيين؟"
**
وبينما يسير مبتعدا عن الدير قليلا، اذ به يلمح اشباحا غريبة تسرع
لتختفي خلف الجبل، انه يعرفهم: انهم بعض افراد القبيلة التي بالقرب من دير العذارى
المجاور لجبل شيهات.
"يا ترى فيما يفكرون الليلة؟ وعلى من يتآمرون؟!
فانني اعرفهم واعرف رئيسهم: انه رجل شرس لا يعرف قلبه الرحمة.
انه مجرم احترف الاجرام. انه رئيس عصابة وقاطع طريق. يا رب بدد
مشورتهم كما بددت مشورة اخيتوفل.
اذكر يا رب لا نفسه واعلن ذاتك له ولمن لم يعرفوك بعد.
وانت يا جبل الله، اما زلت تأوي قطاع الطريق! اما يكفي ما فعله بك
ابونا البار ابو مقار، اذ حولك بنعمة الله الى سماء وفردوس يسمع فيه على الدوام
اصوات خاشعة وهي تنطلق بالصلوات.. والتضرعات.. قداسات.. حتى صار اسمك
"شيهيت" اي ميزان القلوب.
***
وقطع هدوء الدير صوت قادم من بعيد. انه صوت قرع ناقوس جرس كنيسة
دير العذارى. ثم لحظات وسمع اجراس ديره تدعوه الى صلاة الغروب . وعلى وقع اجراس
ديره قطع الراب طريق العودة الى الدير... وما هي الا لحظات حتى عاد كل الاباء الى
الدير، واغلق باب الدير الكبير.
***
خلف السور العالي الذي يحيط بدير العذارى كانت الرهبان يتقاطرون في
هدوء وسرعة الى كنيسة الدير يسجدون امام الهيكل، ثم يأخذون بركة من مقصورة تحوي
اجساد القديسين بالدير وبعدها يتم السلام على الام وباقي الاخوات ثم تأخذ كل اخت
مكانها في الكنيسة.
وارتفعت الى علو السماء صلاة الغروب، وعلا صوت الام الوقور في
روحانية .
"الرب يظلل على يدك اليمنى فلا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر
بالليل..
وبعد انتهاء الصلاة نظرت الام الى كنيسة الحصن وصلت: "يا ملاك
ميخائيل ، يا حارس الدير، فلتبدأ عملك من الان.. واتجهت الى قلايتها واوصدت الباب
خلفها.
أعجوبة في الدير:
في الوقت الذي فيه كان الليل
يزحف بظلامه على برية الإسقيط كانت قدما إنسان تتجه إلى دير العذارى.
كان طويل القامة، مرتديًا
ثياب راهب، وبيده عصا طويلة من الجريد، يتوكأ عليها ويجر قدميه على الرمال.
ويسير في هيبةٍ ووقارٍ، وما هي إلا لحظات حتى كانت يداه تستخدمان عصاه في القرع
على باب الدير.
وجاء صوت خافت: "من أنت
يا سيدي؟"
عندئذ أجاب الرجل بصوت هادئ:
"قولي للأم بأن المسكين دانيال القسيس الذي من شيهات قائم على
الباب".
أجابت الأخت من الداخل:
"لحظات يا أبي لأخبر الأم".
عندئذ قال لها: "بل
قولي لها اقبليني عندكن للغداة لكي أستريح".
أسرعت الأخت مهللة، تحمل
للأم نبأ قدوم الأنبا دانيال قس الإسقيط ووجوده خارج ديرهن طالبًا الدخول. وكان
سرور الأم أعظم، فأمرت بقرع جرس الدير. فتجمعت الأخوات وأسرعن جميعهن
ليستقبلن رجل الله الأنبا دانيال.
وفى سكينة الليل دوت
الألحان. فأحالت الدير إلى ليلة عيد. وطأطأت الأم في مطانية وخشوع
أمام الزائر القديس. وقبلت الأخوات قدمي ذلك الإنسان، وكانت لأكثرهن أمنية محببة
هي رؤية الأنبا دانيال والنعمة التي تشع من وجهه، فتبعث في النفس سلامًا عجيبًا،
يزيل الهموم ويحيلها إلى فرح دائم.
وكعادة الدير مع
الضيوف، أسرعت الأخوات وأحضرن ماء في لقان، وغسلن رجليه. وكانت الأم القديسة تكرر
الترحيب بالضيف، طالبة صلواته وبركاته من أجلها ومن أجل جميع الأخوات لكي يكلل
الله حياتهن بسلام وهدوء إلى يوم اللقاء.
قالت الأم لتسمح لي يا أبي
أن أحضر لك الأخت هيلانة فقد ولدت عمياء. وحضرت إلينا منذ سنوات وحياتها هادئة،
تمارس الأسرار في نشاط دائم. ومحبتها في قلب كل أخت في الدير، لا ينقصها من
نعم الله سوى نعمة النظر لتتمتع بقراءة كلمة الله.
وجاءت هيلانه بهداية إحدى
الأخوات حتى أمام الضيف، وقالت الأم: "يا ليت قداستكم تصلي عليها لتبرأ مما
بها.
قال: "قدمن لها فضلة
الماء الذي في اللقان".
أخذت هيلانه الماء ورشمت
عليه باسم يسوع وارتفع صوتها قائلة: "بصلاة القديس الأنبا دانيال يا رب لتكن
إرادتك". وما أن اغتسلت حتى أسرعت الراهبة وارتمت عند قدمي الرجل وهى تقبلها
وتقول:
" أبي. أبي. إنني
أبصر، بالحق أراك. أنت رجل الله، أنت قديس البرية. ماذا أرد من أجل
صلواتك ومحبتك؟"
وفى وسط تهليل الراهبة
وبهجتها انطلقت الراهبات ترتلن وتنشدن ممجدات الله صانع الخيرات. وكانت الأم تصرخ
وتقول: "مباركة هي الساعة التي وصلت فيها إلينا. مباركة الساعة التي وطأت
فيها قدماك عتبة الدير، يا أنبا دانيال. مبارك الآتي باسم الرب. شكرًا لله
الذي أرسلك إلينا الليلة".
أما الرجل فلم يدرِ ماذا يفعل،
وكانت الدموع تنهمر من عينيه. يحاول أن يمنع الراهبات من تقبيل قدميه،
أما هن فقد تسابقن في التمسك به وأخذ البركة منه. راح الرجل في غيبوبة، ومرت أمام
نظره كل حياته.
انزرفت الدموع من
عينيه تجرى كما من ينبوع، وإذ طلبن منه أن يأتي ليصلي لهن تسبحة الشكر والتمجيد في الكنيسة،
أجاب بدموع:
"يا
بناتي. لتصلين من أجلي. إني بالحق خاطئ... اذهبوا ومجدوا الرب. اتركوني وحدي لأبكي على
خطاياي".