يوضح لنا الكتاب المقدس ان الشيطان شخصا حقيقيا ﻻ وهميا، ويصفه بانه "رئيس هذا العالم" و "رئيس سلطان الهواء" و "اله هذا الدهر". واهم البراهين على انه شخص حقيقي وصية يسوع لتلاميذه ان يذكروه في صلاتهم مهما اختصروها، ويقولوا "نجنا من الشرير".. ليس من "الشر" و لا من "الاشرار" بل "من الشرير".
ويتضح ايضا ان التجربة او تسلط ابليس مقيدة بسماح الهي، وابليس يعترف بذلك. والقصد الالهي فيها هو للخير، لان المنتصرون ينالون المكافاة. والذي يدفع كل ريب انها بقصد حبي خالص ان الروح القدس هو الذي اصعد يسوع الى البرية ليجرب من ابليس.
ولا يخفي الفرق بين نوعين من التجربة. الاولى، لاجل امتحان الايمان كما حدث مع ابينا ابراهيم ويطلب منا الرسول ان نفرح (يع1: 2).
والنوع الثاني لاجل اغواء الانسان ويقول عنه الرسول "لا يقل احد اني اجرب من قبل الله لان الله لا يجرب احدا بالشرور"(يع1: 13).
يكشف المسيح بنفسه عن خبر تجربته – اذ كان وحيدا في البرية وليس من يخبر عن خبرها الا هو نفسه – يكشف الستار عن سر عميق من اسرار اختباراته الروحية والمحنة الشديدة التي اجتازها منفردا تماما كسائر البشر.
يريد البعض ان يعتبروا الشيطان ليس الا خيالا يستخدم للتعبير الشر الداخلي. ولكن خبر تجربة المسيح يعارض هذا الراي تماما. لان خلو قلب المسيح من اثر اي فساد يؤكد ان التجربة للخطية لا يمكن ان تاتيه من الداخل . فباب التجربة في قلبه لا يمكن فتحه الا من خارج.
خضع المسيح لقوانين الحياة الارضية كابن للانسان. منها ان وراء كل جبل عال واديا منخفضا، وبعد كل ابتهاج عظيم انزعاج يضارعه، وبعد كل نجاح يأتي انحسار.
كان رفقاء المسيح في هذه البرية الوحوش الضارية. ونعرف ان ادم فقد سلطته عليها بعد سقوطه. فلما نقرا ان المسيح كان مع الوحوش نتصوره محاطا بها ، مثل دانيال، تحفظه هيبته المقدسة من انيابها. او ليس من شان ازالة الخطية اعادة تلك السلطة المفقودة. او ليس الرفق بالحيوانات من مقتضيات الدين والرحمة؟
في اغواء حواء اتخذ ابليس شكل حية واستخدم حواء في اغواء ادم ومن ذلك الحين يستغنى ابليس عن الحيوانات ويستخدم البشر في ذلك. فللتجربة بواسطة المقربين مفعول مضاعف. فلما قصد ابليس ان يحوّل المسيح عن فدائه استخدم بطرس.
التجربة الاولى:
قد سكت الوحي عن وصف الهيئة التي ظهر بها ابليس. الاغلب انه ظهر شخصيا وبهيئة شخص عادي اقبل على المسيح في البرية. فان صح ذلك، يكون ابليس قد اظهر تعجبه من جوع المسيح الناتج عن قيادة الروح الالهي له في هذا القفر، ثم تركه بدون القوت الضروري. ثم من باب التودد ذكر للمسيح – ان قوته كابن الله تجعل سد هذه الحاجة امرا سهلا.
اظهر المسيح باستناده على اقوال الكتاب ما هو المرجع الحقيقي في امور الدين. ومع كونه اقدر الناس على افحام المجرب بالحجج الفلسفية، اثبت بجوابه ان قوة الاحتجاج الديني توجد في كلمة الله، لا فيما تستنبطه الفلسفة. لان سيف الروح وحده قادر ان يقهر ابليس.
رغم ذكاء ابليس الفائق نسى ان ابن الله لا يجوع ولا ياكل خبزا ولا يجرب اصلا. فاصلح المسيح وهم ابليس لما اوضح له انه يواجهه – لا كابن لله – بل كابن الانسان. لم يهتم المسيح – في حياته – بتذكير الناس انه ابن الله. فلا يذكر الانجي سوى 10 عبارات فقط. بينما يشير نحو 50 مرة الى كونه ابن الانسان.
فلو اسندت الطبيعة الالهية الطبيعة البشرية في التجربة، لكان ذلك بمثابة اعتراف منه ان الطبيعة البشرية عاجزة عن التغلب عليها، ولما صحّ القول انه تجرب مثلنا، ولا ان يكون مثالا للناس. فهو لا يفعل في ساعة التجربة ما يعجز تلاميذه ان يفعلوه. وهذا سببكاف لعدم تحويله الحجارة خبزا. فضلا انه يريد ان يذوق بنفسه تجربة الجوع الشديد، لان هذا نصيب كثير من البشر.
هذه التجربة الاولى هي الحيلة التي نجح بها ابليس في اسقاط حواء ثم بني اسرائيل في التذمر. وقد قصد المجرب ان يغري المسيح ان يهتم بذاته، فان نجح بهذا يعطل عمله الخلاصي لان المسيح حينها يكون ممن يعيشون لذواتهم. "لان المسيح ايضا لم يرض نفسه"(رو15: 3). وصح فيه تعيير مبغضيه "خلص اخرين واما نفسه فما يقدر ان يخلصها". فصار هذا مبدا لتابعيه انكار الذات.
التجربة الثانية:
ابليس ابدل خطته بالنقيض تماما. فقد سلّم انه ابن الله ولا ينفص عن ابيه فطلب ان يتمسك بهذا الارتباط ويبرهن عنه. وتظاهر انه سلمللمسيح بافضلية الامور الروحية على الجسدية. فطلب من المسيح عملا خطيرا خاليا من المنافع الجسدية، لكن فيه تعريض الجسد لخطر عظيم..
نظن ان ابليس ظهر حينها في هيئة ملاك من نور.. وهو هنا كانه يضمن للمسيح ان يصونه من الاذى حتى لو رمى نفسه ولا سيما وانه يقدم بذلك برهانا للعالم عن نزوله من السماء من عند الله.
ان ما كتب في مكان ما من الكتاب يفسر في باقي الكتاب. اذ يجب ان يفسر كلام الوحي بمثله.
لقد تجنب المسيح في كل حياته المخاطر، الى ان اتت الساعة التي فيها وجب ان يقدم نفسه ذبيحة اثم.
الوجه الاخر للتجربة هي ان يتخذ المسيح سياسة الادهاش العقلي البصري. ولو نجح ابليس في تحويل المسيح عن الاهتمام بالتاثير الروحي في القلوب يكون ابليس قد حفظ سلطته على البشر.
ومع ان المسيح مزمع ان يصنع معجزات كثيرة لكنه لم يصنعها لاجل الادهاش ولا لجذب الناس للايمان، بل تثبيتا للايمان في القلوب.
التجربة الثالثة:
بنى رفض المسيح على نوعة ما كلفه ابليس به وليس على كذب وعد ابليس ومواعيده فارغة. رفض السجود لغير الله. ورفض ان يقدم السجود من باب النفاق لشخص لا يسجد له قلبيا. وان يتخذ لاجل غاية حسنة وسيلة سيئة. كانت خطته تطلب من المسيح ان يتبنى المجد العالي في امور الدين، كما يفعل رجال الدين جميعا، وحتى رسله ويوحنا المعمدان، الذين توقعوا ملكوتا زمنيا يقيمه المسيح متى جاء.
لا يستبعد ايضا ان هيئة ابليس لم تكن هيئة شيطانية ظاهرة تولد النفور منه. لكن وقاحة اقتراحه في طلبه تكفي لتكشف عن حقيقة شخصه.
انتهره ومع ذلك لم يمسك عنه قوة البرهان بل سرد له المكتوب.
فارقه الى حين فقط. وظهر للحال مراقبة السماء "اذ جاءت ملائكة لتخدمه" كانها تنقل التهاني السمائية على فوزه. فكم يكون فرحهم وهم يخدمون ليس ورثة الخلاص بل رئيسه.