الخميس، 17 يناير 2019

تذكارات الماضي السعيد

الحديث الكبير لايوب مع نفسه
29-31
اذا اهملت الايات الاربع التالية التي فيها يخاطب ايوب الرب "إِلَيْكَ أَصْرُخُ فَمَا تَسْتَجِيبُ لِي. أَقُومُ فَمَا تَنْتَبِهُ إِلَيَّ. تَحَوَّلْتَ إِلَى جَافٍ مِنْ نَحْوِي. بِقُدْرَةِ يَدِكَ تَضْطَهِدُنِي. حَمَلْتَنِي، أَرْكَبْتَنِي الرِّيحَ وَذَوَّبْتَنِي تَشَوُّهًا. لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى الْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ"(30: 20- 23)، كانت هذه الفصول حديثا طويلا لايوب مع نفسه، موازيا لما جاء في اصحاح 3 ويأتي ليختم الحوارات العقيمة بين ايوب واصحابه. لكن في الوقت نفسه يفتح الخطاب الموجه الى الله. يختم بتحدي "مَنْ لِي بِمَنْ يَسْمَعُنِي؟ هُوَذَا إِمْضَائِي. لِيُجِبْنِي الْقَدِيرُ. وَمَنْ لِي بِشَكْوَى كَتَبَهَا خَصْمِي"(31: 35). انه يقول "وَأَدْنُو مِنْهُ كَشَرِيفٍ (او اتقدم اليه تقدم رئيس)"(37). واذا تجاوزنا خطب اليهو (الاصحاحات 32-37)، فان التكملة الطبيعية لخطاب ايوب الى الله هي تجلي الله له وجوابه على اسئلته (38-42).
انها مواجهة مع الله في 3 مستويات:
اولا، استنكار ايوب لماضيه (ص29) شكواه من حاضره (ص30) واخيرا محاولته للهرب منه (ص31).
تذكر الماضي السعيد (29):
يذكر ايوب الحقبة السعيدة، فترة صداقته مع الله، والمكانة التي تمتع بها امام الشبان والشيوخ والاعيان، قبل ان يستعرض جميع من افادوا من احسانه. واخر الامر بعد 3 ايات يتحدث فيها عن رجائه، يشدد مرة اخرى على نفوذه.
كل شئ يؤول الى مجد ايوب ويعبر عن كبرياء خفية في قلبه، وان كان ما ذكره لم يكن عليه لوم بحسب العادات البشرية، انه يقف امام الله موقف البار. بعدها يأتي ذم اليهو وتهكم الله الابوي لدى تجليه، واخر الامر توبة ايوب.
والان (ص30)
يبتدئ التشكيك الاخير في ص30 في صيغة شكوى طويلة على وقع عبارة "والان" وردت 3 مرات في الايات 1 و9 و16 " وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ أَصَاغِرِي أَيَّامًا.. أَمَّا الآنَ فَصِرْتُ أُغْنِيَتَهُمْ، وَأَصْبَحْتُ لَهُمْ مَثَلاً! .. فَالآنَ انْهَالَتْ نَفْسِي عَلَيَّ، وَأَخَذَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ". فهو تارة يكدس استعارات الشدة من غير ان يزيد عليها شيئا، وتارة يصيح بالناس وهم عاجزون عن مراعاة حرمة ألمه. ولكن ايوب يحزر من خلف هؤلاء الاعداء غير المتوقعين تحامل الله نفسه ويتهمه في صيغة الغائب قبل ان يشكوه مباشرة:
"اليك" (30: 20-23)
تطرح الايات 2-8 مشكلة نقد ادبي دقيقة. في قرائن النص استعارة الازدراء التي في الشطر الثاني للاية الاولى ".. كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي" ، ثم الوصف القاسي للمنبوذين لا ينسجمان مع الاحساسات اللطيفة التي يظهرها ايوب في كلامه على المساكين لا في الاية 25 وفيها يقول"أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي عَلَى الْمِسْكِينِ" فحسب، بل في اثناء الفصل 31 كله. قد يوحي التباين بين ذلك الفصل و الاعداد (24: 2-11 ) وفيها يقول ايوب عنهم "يَنْقُلُونَ التُّخُومَ. يَغْتَصِبُونَ قَطِيعًا وَيَرْعَوْنَهُ. يَسْتَاقُونَ حِمَارَ الْيَتَامَى، وَيَرْتَهِنُونَ ثَوْرَ الأَرْمَلَةِ. يَصُدُّونَ الْفُقَرَاءَ عَنِ الطَّرِيقِ. مَسَاكِينُ الأَرْضِ يَخْتَبِئُونَ جَمِيعًا. هَا هُمْ كَالْفَرَاءِ فِي الْقَفْرِ يَخْرُجُونَ إِلَى عَمَلِهِمْ يُبَكِّرُونَ لِلطَّعَامِ. الْبَادِيَةُ لَهُمْ خُبْزٌ لأَوْلاَدِهِمْ. فِي الْحَقْلِ يَحْصُدُونَ عَلَفَهُمْ، وَيُعَلِّلُونَ كَرْمَ الشِّرِّيرِ. يَبِيتُونَ عُرَاةً بِلاَ لِبْسٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ كَسْوَةٌ فِي الْبَرْدِ. يَبْتَلُّونَ مِنْ مَطَرِ الْجِبَالِ، وَلِعَدَمِ الْمَلْجَإِ يَعْتَنِقُونَ الصَّخْرَ. «يَخْطَفُونَ الْيَتِيمَ عَنِ الثُّدِيِّ، وَمِنَ الْمَسَاكِينِ يَرْتَهِنُونَ. عُرَاةً يَذْهَبُونَ بِلاَ لِبْسٍ، وَجَائِعِينَ يَحْمِلُونَ حُزَمًا. يَعْصِرُونَ الزَّيْتَ دَاخِلَ أَسْوَارِهِمْ. يَدُوسُونَ الْمَعَاصِرَ وَيَعْطَشُونَ."، تفسيرا لهذا الازدواج. فان ايوب عندما يشعر بانه عرضة للظلم يعتنق قضيتهم (25) ولكنه عندما يلتفت البائسون انفسهم نحوه، وهو كبيرهم، لكي يسخروا من شقائه، فانه يصبح هو ايضا عدوانيا.
تذكر الماضي والتبرئة:
ليس التذكر هنا تكرار او امتداد للفصل 29 لان ذلك التذكر لا ينتشر في محور السعادة بل مستوى الكمال الخلقي. فان ايوب يطالب ببراءته من اول ايات ص40 الى اخرها.
يظهر الفصل في صيغة يمين طويلة تتبع الرسم البياني لفحص الضمير. تحصي 14 خطية هي:
شهوة الجسد
اتباع البكل والكيد
شهوة الغنى
شهوة الزنى
هضم حق العبيد
عدم اطعام المحرومين والارامل
عدم اكساء المساكين
استغلال الوجاهة للاساءة الى اليتيم
الثقة بالغنى
عبادة الكواكب
الشماتة بهلاك العدو
عدم ايواء الغريب
كتم المعصية
الافراط في استغلال الارض.
قد يكون الرقم 14 تقليدا قديما. الرقم هو ضعف 7 المذكور في المقدمة. عن كل تلميح بخطية يجيب ايوب بلعنه نفسه فيذكر الحكم والعقاب اذا حنث. يتجاوز هذا الفحص بكثير فحص اصحابه له. وهي اوسع مما ذكر في الوصايا العشر. فلا يوجد سوى "تحريم اشتهاء مال القريب وامراة القريب وعبادة الالة الاخرى (هنا الكواكب)". يبحث ايوب من تحت العمل الخارجي عن الباعث مثل الشهوة. السلطة نفسها تنشئ التزامات جديدة. وهكذا في مجتمع لا تزال شريعة "العين بالعين" بحتفظ بكل قوتها تتميز اخلاق ايوب بتبصر ولطف غير متوقعين.
نلاحظ ان ايوب اراد بكل يمين من ايماناته ان يبرئ نفسه، وان يجد الثقة التي كانت له لدى الله. وان تكراره لمناداته ببراءته قد شدده ايقانه انه غير قابل للطعن من قبل الله كما من الناس.
كما نلاحظ ان الشعور بالذنب ينشئ انغلاق على الذات. ان هذه العودة لماضيه لم تنشئ في نفسه سكينة على نحو ما نراه في كاتبي المزامير. انه يملي على الله سير الدعوى فينذره بأن يقدم اخر الامر لائحة اتهامه:
"من لي بمن يسمعني؟
هذا توقيعي فليجبني القدير.
والكتاب الذي كتبه خصمي.
فلاحملنه على كتفي.
ولاعصبنه تاجا على رأسي.
ابيّن له عدد خطواتي.
واتقدم اليه تقدم رئيس"(35-37).
ان ايوب في رده على الاتهام الطويل الذي تخيله مكتوبا ضده، يجازف بدفاع اخير. فبعد كل خطية كأن له الحق ان يكتب: (غير مذنب). وهو الان يوقّع كمنتصر.