الخميس، 17 يناير 2019

حوار الله

تجلي الله
(38-42: 6)
الله يجيب:
"واجاب الله ايوب من العاصفة".
ان الله لدى خروجه اخر الامر من سكوته، استجاب طلب ايوب، فازال لومين وجههما اليه ايوب: انت بعيد. انت لا تبالي.
ان جواب الله هو قبل كل شئ حدث سيحياه ايوب، سوف يدخله في اختبار جديد. ولكن قد يخطئ ايوب فهم مجئ الله على نحو ما اخطأ من قبل فهم سكوته. قد يظن ان الله يظهر ليبرره.
يجيبه من العاصفة التي خطفت ايليا من قبل، وهي نفسها في حزقيال داخلة في الاطار الكوني لتجلي الله، وفي (زك9: 14) تصحب تجليا الهيا للخلاص، ولكنها في اكثر الاحيان تشير الى تجلي الله القاضي (اش29: 6).
اغرب ما في الامر، بدل ان يأتي بجواب او حل يطمئن ايوب، يؤلف سلسلة طويلة من الاسئلة والحوار الذي يدفع ايوب اخر الامر الى مأزق يغلق عليه فيه.
طبيعة الحوار:
يبدا الحوار مرتين بكلمة "اجاب الرب ايوب من العاصفة"(38: 1 و 40: 6). ومرتين "اجاب ايوب الرب"(40: 3 و 42: 1).
الخطاب الاول لله له خاتمة (40: 1) اما الخطاب الثاني فلا.
الله في اعماله
(38: 4 الى 39: 30)
يبرز الرب الخالق امام ايوب قدرة كلمته، ففي الوقت الذي يضع فيه اساسات الارض وهكذا يضع الحجر الاول لبنائها "اذ كانت كواكب الصبح ترنم جميعا وكل بني الله يرنمون" وكأننا في طقس تدشين الهيكل. كان امر واحد من عند الله كافيا لتدمير كبرياء البحر للابد "وَقُلْتُ: إِلَى هُنَا تَأْتِي وَلاَ تَتَعَدَّى، وَهُنَا تُتْخَمُ كِبْرِيَاءُ لُجَجِكَ؟"(ع11). فالظلام يعرف حده والفجر المكان الذي يجب عليه ان ينتظر فيه ضوء النهار " هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ الصُّبْحَ؟ هَلْ عَرَّفْتَ الْفَجْرَ مَوْضِعَهُ"(ع12).
هكذا يقدم الرب نفسه على انه اله النظام في الكون. يشد عقد الثريا وحبال الجوزاء "هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟"(ع31)، لكي يبقى رسم الكواكب بلا تغير فقد اصدر "احكام السموات" ويجري على الارض ما قد كتب في العلى "هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ، أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الأَرْضِ؟"(ع33). وهو وحده يستطيع قراءتها. فبفضله وحده تبقى المقاييس ثابتة والنوبات منتظمة، فما ان يتحرك شئ في الخليقة حتى يكون له مسبقا طريقه المرسوم (19 و 24 وسبله 20 او دربه 25)
ان الله الواسع العلم هذا، الذي ينظر الى الاعماق، ويرى عن بعد، يجول مرتاحا في المجالات المجهولة التي تؤلف للانسان ميدان الجهل، فهي لذلك تمثل له ميدان الخوف: مساحات الارض، وينابيع البحر، واعماق القمر، وابواب الظلام، وابواب الموت. ومع ذلك فالصانع العظيم يظهر نفسه قادرا على الطف العنايات: فهو يحصي الغيوم بحكمته قبل ان يميلها مثل زقاق لئلا تغرق البلد (37) وهو يعد الاشهر لولادة الوعول (39: 1) ويضع الحكمة في ابي المنجل لينبئ بفيضانات النيل (38: 36) ويهب للفرس غريزة حب القتال (19-25) وينبه الباز بانه حان وقت العودة الى موطنه مع ريح الجنوب (26) حتى الخلائق الجامدة لا تخلو من اهتمام هذه العناية الفائقة، فتوصف نشاتها على نحو ولادة الحيوانات: فللمطر اب وكذلك لقطرات الندى (38: 28) وللصقيع والجمد بطن الام (29)  وحين يندفعالبحر خارجا من الرحم (رحم الارض) فالرب يسرع لان يقمطه بالغمام (8).
ولكن اله يتراءى لايوب بحرص خصيصا على تاكيد حريته المطلقة. انه وهو الذي لا يستطيع احد ان يؤثر في اختياره، وما م شئ يستطيع ان يعوق فعاليته، يريد ان يعترف به سيدا حتى لما ليس نافعا وما هو فاضل عن الحاجة.
يمطر على ارض لا انسان فيها (38: 26) ويرزق حيوانات حمقاء مثل النعامة (39: 13) ويرعى حتى الحيوانات الضارة، ويطعم فراخ الغربان والاشبال وصغار الطيور الجارحة (38: 41 و 39: 30).
في ه1ه اللوحة الكبيرة للطبيعة لا يبدو ان للانسان مكانا كبيرا فيها. يذكر الرب يوم الحرب والقتال (38: 28) ثم يوضح بعد قليل كيف يفهم عيش الانسان مع الحيوانات (39: 5-12). هناك نص واحد يلمّح الى حياة الانسان الخلقية: ان الفجر "ياخذ باطراف الارض فينفض الاشرار عنها"، كما ينفض بساط تعلوه الطفيليات، فيحرم الاشرار نورهم وتحطم الذراع المرتفعة (38: 13-15). يكتفي الرب هنا بالاشارة الى الموضوع عرضا ، من غير ان يدع شيئا يصرفه عن وصفه الواسع للكون.
ولكن اذا كان الانسان لا يظهر الا عرضا في وصف النشاط الالهي، فانه يقصد في كل لحظة من الحجج في شخص ايوب وهو المخاطب الذي يوجه الرب اليه الكلام. ذلك ما يجب علينا الان ان نبرزه.
حدود الانسان:
لا يبتغي الرب ان يبعث في ايوب مقدرة جديدة على التعجب فحسب، بل يريد ان يقيمه تجاه حدود ثلاثة: حد وجوده بوصفه انسانا، وحد معرفته، وحد قدرته.
الحد في الزمان: لم يشهد ايوب بدء الخليقة "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ"(38: 4) في فجر الزمن. لم يستطع ان ينضم الى كوكب النور وهي ترنم. ليس الانسان الا معاصرا لجزء من ملحمة الله. واول حده انه ولد بعد تكوين العالم (38: 4 و 12).
حدود علم ايوب:
ان تراكم افعال "المعرفة" في الاسئلة التي ينهال بها على ايوب تثبت اهمية هذه القضية (38: 4 و 12: 17 و 20- 22: 33 و 39: 1). العلة الاخيرة للاشياء تبقى مخفية عليه "أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ" و "أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ الْعُقَابُ وَيَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ نَحْوَ الْجَنُوبِ؟"(38: 4 و 39: 26). ويرى ايوب نفسه مضطرا اخر الامر الى التسليم بأن مقاييس الجمال والحكمة والنفع ليست في حوزة الانسان، ولكنها تعود الى حرية الله كخالق. هذا التشديد على قصور معرفة الانسان يدل على طبيعة السفر الحكمية. فبما ان الله نفسه يحصي اسرار خليقته فلا يكون ذلك لتجميد العلم عند العلماء ولا الحكمة عند الحكماء، بل بالاحرى لكي يرد نهائيا على ادعاء وجود العلم الشامل عند الانسان بشان ظواهر الكون. سيكون هناك دائما شاطئا مجهولا (26: 14).
حدود قدرة ايوب:
كل تلميح جديد الى قوة الخالق ومهارته يبرز حتما عجز ايوب. 14 مرة يرد السؤال "من؟" من حدّد.. من سجن.. من ولد؟ الخ.. فيكون الجواب من غير تبديل (الله). فيرى ايوب رويدا رويدا، ومن نفي الى نفي، مجال قدرته وحقوقه تتناقص. العالم خلق له، ولكن شخص اخر يعمل فيه، شخص اخر يملكه. ان كلمة ايوب لا تخلق شيئا، فلا يستطيع ان يأمر الصبح ولا العقاب "هَلْ فِي أَيَّامِكَ أَمَرْتَ الصُّبْحَ؟ هَلْ عَرَّفْتَ الْفَجْرَ مَوْضِعَهُ" و "أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ النَّسْرُ وَيُعَلِّي وَكْرَهُ؟"(38: 12 و 39: 27).
ان ما يستطيع معرفته بوصفه انسانا يتوقف دائما قبل الاوان: فلم يصل قط الى ينابيع البحر "هَلِ انْتَهَيْتَ إِلَى يَنَابِيعِ الْبَحْرِ، أَوْ فِي مَقْصُورَةِ الْغَمْرِ تَمَشَّيْتَ"، او الى مخازن الثلج والبرد "أَدَخَلْتَ إِلَى خَزَائِنِ الثَّلْجِ، أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ الْبَرَدِ"(38: 16 و 22). وحتى اذا وقع المستحيل، وعلم احكام السموات، فانه عاجز عن تحقيق في الارض ما كتب في تلك الاحكام او القوانين "هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ"(38: 31). فسواء الاحوال الجوية او سير الكواكب او اطعام الاشبال او مخاض الايائل، فكل شئ يحدث بمعزل عن الانسان وعلى وجه حسن. وعندما تجوع فراخ الغربان فانها تنعب الى الله لا الى ايوب "مَنْ يُهَيِّئُ لِلْغُرَابِ صَيْدَهُ، إِذْ تَنْعَبُ فِرَاخُهُ إِلَى اللهِ، وَتَتَرَدَّدُ لِعَدَمِ الْقُوتِ؟"(38: 41). عن الله لا تستطيع الحيوانات ان تستغني، في حين ان الانسان لا يستطيع ان يساعدها اية مساعدة كانت. وهناك بعض الحيوانات تشعره بذلك: الحمير البرية تسخر من الحمّارين، والثور الوحشي يرفض ان يحرث الاودية، والنعامة تتحدى الفارس في الجري. ان البهائم، اذ ترفض هكذا بطريقتها، سيادة الانسان، تخدم قضية الرب وتؤكد على صدق احكامه بل ان الرب في بعض الاحيان يوافق على ارادتها ان تكون حرة. اخذ ايوب على الرب انه يستخدم الطون لغايات انتقامه، فرد الرب بوضع العالم والحيوانات في خدمة طريقته التربوية للخلاص.
عودة الى تاريخ البشر
(40: 8- 14)
سبق للرب في اخر خطابه الاول ان وضع ايوب امام اختيارين: اما الجواب او الاستسلام. ان ايوب قد جادل القدير واشتكى منه فلابد الان ان يفصل الجدال فلا يستطيع ان يكون ايوب محقا الا اذا حكم عليه الله. ومن هنا يقوم السؤال "ألعلك تنقض قضائي؟ اتؤثّمني لتتبرر انت؟". يجب على المؤمن ان يختار اما ان يبرر نفسه ويؤكد بره الخاص، واما السجود بلا شرط للعدل الالهي. والانسان بنفيه بره امام الله يصل الى البر بحسب الله.
على قدر طول اناة الرب حيث تأنّى ليصف اعمال عنايته، على قدر ذلك اتجه مباشرة الى الامر الجوهري، وهو يتناول وصف تدبيره في التاريخ لانه لم ينس كلامه في "مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟"(38: 2). وهو الان عن تدبيره في التاريخ سيجيب "إِذَا خَطَفَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ اللهُ لاَ يَرُدُّ غَضَبَهُ. يَنْحَنِي تَحْتَهُ أَعْوَانُ رَهَبَ"(9: 10-14).
يمكن ايجاز جوابه في عبارتين:
"ليس لك قدرتي". ليس لايوب ذراع مثل الرب. تشير ملمة "ذراع الرب" الى تدخلات الله في التاريخ (مز71: 18). وهذا ما يجب ان نفهمه في (40: 9) وان كان يعود الى الرعد المادي.
"انت عاجز عن سحق الاشرار"(40: 12). عاجز عن ان تحقق بنفسك العدل الذي تطالب به. ان الزهو في متناول ايوب، واما التسربل بالكرامة والمهابة" – ان امكن له ذلك- فسيكون محاولة لانتهاك قداسة الله ، وكأنه لا يبق سوى ان ينحني الرب لهذا السيد الجديد للتاريخ، وحاشا لله!
الله يمدح الانسان! لابد ان هذا الافتراض كان يبدو لكل اسرائيلي كفرا. وعلى ما قدر ما يتكرر القول "امدحك" كثيرا تتكرر في المزامير عبارة "ذراع الرب وحدها تخلص"(مز20: 7و  44: 4..)
وهكذا عكس الرب مرتين في اية واحدة على ايوب، سلاحه، وهو قلب القضايا رأسا على عقب. فكما ان ايوب عكس الاستعارات الكتابية ليضطر الله للخروج من سكوته، كذلك يسير الرب هنا بثورة ايوب الى غير المعقول، لكي يحمله الى السكوت، يكشف له عما في جرأته من تجاوز الحد ومدعاة للضحك. اذا كان ايوب يقصد ان "يخفض كل متعظم" ، أفليس عليه ان يبدأ بالحكم على نفسه؟