عكفت على درس الفقه والقوانين، عساي بها اترقى الى القضاة او المحاماة.. كنت الاول في الفصاحة، ممتازا بين زملائي. ولذلك رحت اتمايل تيها.
وقع بين يديّ تاليف لشيشرون، ولما طالعت منه مقالة، يحرّض فيها الناس على طلب الفلسفة. اثرت تلك المقالة في نفسي، واستمال قلبي نحوك يا ربي، واستعرت في قلبي نار الشوق، وذلك رغبة في جمال الحكمة الدائم الخالد. كم تلهفت وقتئذ لاتخاذ جناحين لاطير بهما نحوك لان الحكمة الصحيحة انما هي لديك.
من اين يشرق الحب:
صارت امراض نفسي تزداد وطاتها ثقلا ، فرحت التمس لها علاجا عند الخلائق المادية، ولم يكن لي من لذة، الا في ان اكون محبا ومحبوبا، اي عاشقا ومعشوقا.
ومع ان النفس هي التي تتجلى في الانسان باشعة لامعة، وتنبت في قلبه عواطف الحب، فانا تعاميت عنها، ولم التفت الا الى الجسد. ولا ذبت حبا، الا بنار شهواته.
الفخ:
طوال تلك السنوات التسع الممتدة بين التاسعة عشرة والثامنة وعشرين من عمري كنت فريسة لشهوات مختلفة.
اتخذت لي زوجة ولم تكن شرعية، اشباعا لشهوات جامحة ثم تحققت بنفسي الفرق بين الميثاق الزوجي وبين ما يرتكز على اشباع اللذة الحيوانية.
اه يا خيري! الذي اذوب الان في حبه وهيامه، وهواه وغرامه، اين كنت وقتئذ وكم كنت بعيدا مني، او بالاحرى كم كنت انا بعيدا عنك؟
اني كنت تائها في بلاد الخرنوب. كم كان اشقاني! جريت وراء الجسد ساعيا اليك، فوقعت في شرك تلك المراة. ولما كنت مسحورا بدهاء الحواس، تناولت من خبزها، ووقعت في فخها.
من يسكت الريح:
ان مطالعة تلك الكتب الحاوية الخلاعة والمجون، تشبه في تداولها بين اولاد المدارس، نهرا يجرف اولاد حواء. ولا ينجو من الغرق فيه، الا من تمسك بعود الصليب.
ولا اقصد بما ذكرت ذم اللغة والفاظها، لانها بذاتها حسنة وحميدة، بل عنيت تحريم تلك الكتبذ، المحشوة سطورها من السموم، واما ا نا فاني قد ش رب ت من تلك السموم را ضيا مختارا ، وامامك ايها الرب الهي اقر بذلك.
وعليه دعوني فتى الامال ورجل المستقبل. وهكذا كانت الخيلاء تتقلبني تقلب الريح في جريانها. واما انت يا ربي، فانك وحدك كنت تدبر اموري تدبيرا قويما، من غير ان ادري.
لا سواه ينير العقل:
ولما كنت في قرطاجنة، وانا يومئذ في مشارف ال20 من العمر، كنت مشغولا بمشاغل الهوى والعشق، متعلقا بحب الغانيات.
تعلمت الفصاحة والحساب والهندسة والموسيقى، ومن غير مشقة. وذلك كله انما هو من فضلك يا ربي. لانك قد انعمت علي بسرعة الفهم وقوة الحجة. وانما لكفري باحسانك، ما استخدمت هذه القوى لتمجيدك. ماذا ترى افادني وقتئذ عقلي، وما تلقيته من الدروس والكتب، على حين كنت جاهلا، لا اعرف شيئا من علم الخلاص.
هو السلم:
نعم كنت ابحث كيف اتمكن من البلوغ اليك، لاحظى بك. ولكن بحثي ذهب هباءا، من حيث لا وسيط بين الله ووالناس غير يسوع المسيح، فهو الذي يلزمني ان اتشبث به ليوصلني اليك.
وهو يناديني قائلا : انا هو الطريق والحق والحياة، وهو لما رانا اطفالا صغارا، لا مقدرة لنا على الوصول اليه، والاقتداء به من حيث هو الله، صار انسانا مثلنا رفقا بحالتنا.
لانني لم اضعه فوق راسي:
حدتني الرغبة الى مطالعة الكتاب المقدس، وانا وقتئذ ما كنت كفئا لاعرف قدره، ولا عرفت كيف اخفض علو تشامخي، لكي اتوصل الى فهم عمق تواضعه.
ولم تكن عيني لتمتد بنظرها الى ما تحت ظاهره وسطوره، وانا لاعتدادي بفهمي ما وجدت لي فيه نصيبا.
اتباع ماني:
استسلمت لايدي قوم (ماني) هم مهذارون شهوانيون للغاية، وقلوبهم فارغة من كل حقيقة، على حين كانوا ينادون دائما: الحقيقة، الحقيقة.
فكانوا يذكرون لي الشمس والكواكب والعناصر ويدعونني الى الاعتقاد بانها الهة.
ومن ثم كنت اتناول كلامهم، ولكن من دون لذة، اذ لم اكن اذوق لك فيه طعما.
المنجمون:
تبعت من جملة الخزعبلات، خرافة المنجمين. كانوا يتخذون من مراقبة النجوم والكواكب دلالة لمعرفة المستقبل.
كانوا يقولون: لماذا تضطرب قلقا من جهة معاصيك، وفي العلاء قوة غالبة تدفعك اليها. فالزهرة مثلا تدفعك الى ارتكاب اثم كذا وعطارد الى كذا؟
لقد التقيت ذات يوم برجل طاعن في السن، بارع في الطب، ذي منزلة سامية، فلما عرف اني مولع بفن التنجيم، قال لي: اني لناصح لك خير نصيحة، وهي ان تطرح للنار ما عنددك من الكتب في هذا الفن، لان علم التنجيم من الخرافات الباطلة.
فهذه النصيحة لم تجدني نفعا انذاك لاني لم اعمل بها.
قطراتها تروي الزهرة اليابسة:
من حسن حظي بيا الهي رزقت منك اما ، لفرط تقواها رات، على نور الايمان، وضياء روحك القدوس، ان ولدها هذا ميت بالنفس. فباتت تبكي علي بكاء، فاق بكاء الامهات على فقد بنيهم بالموت الجسدي. فلله ما اروع عطفك يا امي!
وانت يا مولاي! قد استمعت لها. ولم تزل تلك الدموع تبلل وجه الارض من مدامعها.
حب على الرمال:
ابرمت عقد مودة مع شاب نشا من صغره بعشيرتي، ثم دخلنا المدرسة سويا وكنا نلعب معا. ومن ثم لم يكن لي صديق نظيره، واما انت يا مولاي، حرمتني سلوى عشرته، حيث اخذته اليك بعد قليل للراحة الابدية.
فكان موته ضربة على قلبي. لقد كرهت كل شئ لموته. ولم اعد التذ الا بالبكاء وكنت كمن بنى حبه على الرمال، فلم تلبث ان انهدم.
الله، طوبى لمن يحبك، ويحب صديقه فيك، ويحب عدوه بك، فانه هو الذي لا يحرم صديقا، ومحبك لا يفقدك، الا متى اراد.
قلوبنا لا تزال في قلق مطعونة بالاحزان مهما كانت هذه الاشياء التي نحبها جميلة، ما لم نلتصق بك يا راحتنا.
هو الجمال:
تهوى عيناي الصور لجميلة والالوان الساعة. الله خلق هذه الاشياء الوافرة الجمال وهو وحده خيري، ولكنها طوال يقظتي تغريني.
هذا النور الذي يغمر كل ما نراه ينساب اليّ في نهاري بالف شكل وشكل، فيداعبني ويدخل الي بقوة.
ايها النور الذي راه طوبيا لما فقد عينيه الجسديتين وراح يعلم ابنه على طريق الحياة. انت هو النور الحقيقي. اما هذا النور المادي الذي كنت اتحدث عنه فانه يفيض على الحياة عذوبة خطرة تفرح عشاق الحياة الحميان، واما الذين يعرفون ان يمجدوك بسببه فيجمعون اشعته في الاناشيد التي يرفعونها اليك بدل ان يقعوا تحت نير عبوديته في سبات انفسهم.
هكذا اريد ان اكون، اني اقاوم المغريات لئلا تتعثر بها رجلاي السائرتين في طريقك، وارفع اليك عيناي اللا حسيتين لكي تخلص من الشبكة رجلي.
الفن، ارفعه نشيدا:
كم اضاف الناس من مغريات على ما يسحر النواظر بواسطة الفن.
اما انا، يا الهي ومجدي ، فاني في ذلك ايضا اجد نشيدا ارفعه اليك وذبيحة شكر اقدمها لمن ضحى في سبيلي، اذ ان الجمالات التي تنتقل من نفس الفنان وتتجسم صورا بين يديه صادرة عن ذلك الجمال الاوحد الذي يسمو فوق نفوسنا واليه تتوق نفسي ليل نهار.
انا الناطق بهذه الحقائق ادع قدماي تتعثران في شباك الدمالات وانت تخلصني منها ايها الرب، تارة على اثر سقطة خفيفة، وطورا بوجع عندما يكن التصاقي بها شديدا.
معلم ولا اتعلم:
كنت اعلم الفصاحة في المنازل، وتركت روما وقصدت ميلانو، حيث كانوا قد ارسلوا يطلبون معلما للفصاحة.
وما القيت عصا الترحال في ميلانو حتى توجهت لمقابلة القديس امبروسيوس. فرجال الله هذا قبلني قبول اب، فانطبع حبه على صفحات قلبي. الا ان بداية محبتي هذه له، لم تكن من حيث هو معلم حق، بل من حيث تلطفه معي.
واظبت على سماع مواعظه، حينما كان يكسر خبز اقوالك، حينما كان يكسر خبز اقوالك للشعب ويغذيه ويضرم فيه نارك، ويسكره من معانيه. ولم يكن غرضي من سماعه مقدسا، لفائدة نفسي، بل لامتحان ما اذا كان يستحق الثناء ام لا.
سراب اسمه اللذة:
اتذكر ذلك اليوم الذي تهيات فيه لتلاوة تقريظ بين يدي جلالة الامبراطور. وكان محشوا بعبارات التملق والمبالغة.
وفيما كنت مشغولا بهذا الامر، التقيت لدى سيري بميلانو برجل مسكين يتسول، وهو سكران نشوان، يتمايل طربا، فقلت لرفقتي: انظروا ماذا نطلب نحن من وراء هذه المتاعب المضنكة؟ غير الحصول على سرورر، وهذا المتسول بقدح من الخمر، قد ناله، ولكن نحن، من تراه يضمن لنا نواله؟
نعم، ان فرح هذا السكران هو فرح كاذب. ولكن ما اطلبه انا من الفرح هو اكذب. لان ما عندي من المعارف، ما صرفته للنفع العام، ولكن لاباطيلي الفارغة.
هو كان من الخمر نشوانا ثملا، وانا سكران من الفخرز وما هذا الفخر ، الا كاذب.
عن كتاب مختصر اعترافات اغسطينوس (سرد مع التزام بالنص الاصلي)
روابط ذات صلة: