شكاوى ايوب
كيف يتكلم ايوب عن الله عندما يشكوه امام زائريه؟ فلنحاول ان نوضح بتحليل وجيز، وهو موزع بشئ من الترتيب في حلقات الحوار الثلاث.
سهام القدير (ص6 و 4):
هذه الاستعارة واردة في تقليد قديم: يشعر ايوب ان فعل الموت الذي بدا يدب فيه سيواصل بلا رحمة بفعل سم السهام.
الحوار المستحيل (ص9):
يرد ايوب على ثقة بلدد باعتراض جذري: اني لانسان ان يكون بارا امام الله؟ الحوار مع الله مستحيل في نظر ايوب لثلاثة اسباب:
ان الله لا يصغي لا من قريب ولا من بعيد (ع16). ولن يجيب عن دعوى (ع15-19).
الله له طريقته وهي نقيض الحوار. انه "لا يرد غضبه"(ع13)، و"يسحق من اجل شعرة ويثخن جراحا بغير علة"(ع17). لا يبالي بيأس الابرياء (ع22 وما بعده). فالحق والقوة عنده سواء (ع24).
ليس الله انسانا، وما من احد يستطيع ان يخاصمه (ع3)، وما من اجراء ممكن لانه ليس لاحد ان يدّعي على الله (ع32). واستحالة الحوار يعود خصوصا الى فقدان وسيط: "لو كان بيننا حكم يجعل يده على كلينا!"(ع33). استعمل المترجم اليوناني كلمة "وسيط" وهي المرة الوحيدة في الترجمة السبعينية، وهي الكلمة نفسها التي حفظها العهد الجديد في الكلام عن المسيح (اتي2: 5، عب8: 6 ، 9: 15، 12: 24).
محامو الله (13: 3-19):
عزم ايوب على ان يعرض على الله جميع مظالمه، فقال انه مستعد لان يراهن بحياته في حديث يدور بينه وبين الله.
الله وفريسته (16: 7-17):
ان شكوى ايوب على الله تبلغ هنا ذروتها. هناك 4 استعارات تتوالى وهي تنسب كلها الى الله، من غير ان تسميه ابدا، هوس التخريب.
في هذا النور الدامي الذي لا يطاق يظهر الله تارة مثل وحش يمزق (ع9)، ويحطم الراس (12)، ومثل رام بالسهام (ع12 و 13) ومثل محارب يهجم (14).
ان ايوب يمرغ جبهته في التراب مثل ثور جرح جرحا قاتلا، وهو يشعر الان ان الياس مزق كيانه للابد مثل لبس الحداد لفف على جلده.
الله يستاصل الرجاء (19: 6-12):
شوّه الله حق البار (6) ونبذه نبذا نهائيا. ايوب ماخوذ في شبكة الله (6). والسكوت يزداد كثافة حوله (7). انه محوط به من كل جهة بنوع من القفر تضيع فيه صيحاته. ومع ذلك فايوب يحزر ان الله خفي، يعمل بيده في الحصار "ويسد عليه الطريق" بصبر يدعو الى القلق (8). يتخلى ايوب عن كل انتظار للسعادة اذ ان الله يستاصل رجاءه استئصال الشجرة (10) فلا يبقى سوى ان يتامل خرابه (9-10). لهذه المسيرة نحو العدم لا يرى الا سببا واحدا: عداء الله، الذي لا مبرر له. ولا يبقى سوى ان يستعطي من اصدقائه الشفقة التي يضن بها اله عليه (21).
كلما فكرت في الامر ازددت خوفا (ص23):
يجد ايوب نفسه حائرا بين حضور القدير وغيابه، وخطابه يتكيف على طراز هذه الحيرة. ويعبر في الوقت ذاته عن الرغبة والخوف: الرغبة في مواجهة تكون مبررة، والخوف من عظمة الله الساحقة، وفي ظنه انه يغيظه "بشكواه المتمردة" (2-6). ان ايوب وهو مستعد لكي يملا فمه حججا، يتاهب ليعرض قضيته (4). فيصف نفسه بانه البار الذي يبرز كالذهب من بوتقة الامتحان (10-12)، ويصل لحظة الى يقين الحكماء واصحاب المزامير: هناك مكان فيه يكون الانسان المخلص على يقين من ان يستمع الله اليه: "هناك يستطيع انسان مستقيم ان يحاج الله وسانجو من عند قاضي فائزا" (7).
ولكن ما الفائد لايوب ان يصل الى "هناك" حيث يقيم الله، فالله يفعل ما يشاء (13-17)؟ ما الفائدة من البر وهو لم يجنّب ايوب من قضاء الله ولا الخوف ولا الظلمات؟
الله الذي يرفض حقي (27: 2-6):
ان ايوب، وقد تحطم منذ الان، لن ينتعش الا وقتا قصيرا ليعلن مرة اخرى اخلاصه في ابغاء الله، يبتدئ اعلانه بيمين شانها عظيم وعلى قدر ما توجز مظلمتي ايوب الرئيسيتين: "حي هو الله الذي رفض حقي وحي القدير الذي مرر نفسي.. تمسكت ببري فلا ارضيه".
ان ما يؤثر اكثر من كل شئ، في هذه الشكاوى التي ورد فيها ضمير الغائب (هو) ، هو تراكم استعارات العنف المقتبسة من عالم الحيوان، او من الصيد والحرب. راينا ايوب لا يختار لتسبيحاته سوى موضوعات القدرة الالهية. اما هنا فانه يعرض عمل الله في صورة عنيفة وهو يفعل هذا عن اختيار متعمد. ينسب الى الله الاهواء لتي ترافق الانسان عند استعمال القوة.
الله يبدو اذن لايوب الشرير (16: 13) والظالم (27: 2). ويذهب ايوب الى حد انه يتهمه بالشماتة عندما يرى ياس الابرياء الكظلومين (9: 23).
قد يدعو هذا / لاول وهلة، الى الاعتقاد ان ايوب يريد التجديف: يبدو انه ينتقم بذم الله. لكن تحدي الله او محاجاته هما ايضا نوع من الالتجاء الى الله. التجديف دائما هو طلب القطيعة. ان الحوار يواصل او بالاحرى يطلب في صيغة التحدي العنيفة. يحاول ان يعكس على الله صورا لا يطيقها. انه يحاول ان ينقل الى الله الخلاف الذي يجعله خصما له. فيثبت بذلك انه يرفض هذا الخلاف.
يتصور ايوب مسافة تجعل الله بعيد المنال. في رايه ان الله ليس "هنا" حيث يتالم البار. انه "هناك". وهناك فقط يكون الحوار ممكنا. وهناك حيث يقيم الله يكون وطن البار. لانه "هناك ينال حقه الى الابد". ان محنته الكبرى انه "لا يعرف اين يبحث عنه"(23: 3). هو يعرف الله لكنه يجهل مكان الله. فذكره لله باعث على البحث عنه. وبعد الله يجعل هذا البحث ماساة. ايوب وحده متروك لامره، لا يستطيع لا ان يزيل المسافة ولا ان يكف عن البحث.
**
عندما ينادي ايوب الله (شكاوى ضميرها انت)
في الشكاوى التي ضميرها انت، يتاح لنا فرصة لادراك كنه ماساة ايمان ايوب.
النصوص:
يوجه ايوب في اول حلقة من الحوار كلاما طويلا الى الله ويقول دائما في اخر خطابه:
(7: 7-21)
"كف عني ان حياتي هباء"
"تذكر"
كف عني
يا رقيب البشر.
(9: 27- 31 و 10: 1-22):
"اعلمني على اي شئ تخاصمني!
لماذا تتعبني عبثا؟
ايحسن لديك ان تظلمني؟
(13: 20 – 14: 22):
الانسان الذي مات اين هو اذن؟
ورقة منثورة
ظل يبرح
الشجرة والبحر والسماء
من لي بان تخفيني في مثوى الاموات؟
انت تفني رجاء الانسان (14: 18-22).
في الحلقة الثانية انخفاض مفاجئ، لا يمكن الاشارة الا الى 3 ايات (17: 4-6) جاء فيها "اوقفني مثلا للشعوب".
واخر الامر تتوقف الشكاوى لله تماما في الحلقة الثالثة (ص22-27). ثم تظهر بايجاز في نصف حديثه الى نفسه (30: 20-23) حيث يقول "اصبحت لي عدوا قاسيا".
اربعة اتجاهات بارزة: تسري في هذه النصوص الخكسة عدة موضوعات كبرى ستمكننا من القاء نظرة مجملة. ان ايوب في شكواه يطعن في رحمة الله، وقداسته، وحكته، وكل طعنه على عدل الله يستند الى هذا التشكيك المثلث.
اولا- التشكيك في رحمة الله:
ان الصورة التي يرسمها ايوب لمصير الانسان هنا وهناك تثير الشك ف رحمة الله. فالله اذ يمنحه الحياة يهدي اليه هدية مضحكة. فان حياة الانسان اينما ينظر اليها تبدو في الواقع:
زائلة: لا يستمتع الناس لا بثبات السموات، ولا بما للبحر من ملء لا ينضب. فالانسان، ولا اصل له في العالم، محروم حتى من الرجاء الذي لشجرة بفروعها، ولا يستروح الماء لذي ينعشه (14: 7- 12). انه زهرة تذوي وورقة في مهب الريح، وعصافة تثيرها اقل زوبعة (14: 1- 6). ولا قوام له سوى ظل يزول. ليست حياته سوى هباء. وايامه تزول مثل سفن الردي، لان البقاء لله.
اليمة:
ليست الحياة لمولود المراة (14: 1) هربا لا نهاية له فحسب، بل سخرة اجير (7: 1، 14: 6). طوال ما اورث من "اشهر بطل" و"ليالي مشقة" لن يكون له سوى ان يمضغ المه (7: 3) ولن يتاح له ان ينسى شكواه (7: 13 و 9: 27). من اصحابه البشر لا يسعه ان ينتظر شيئا: فليكونوا في مامن من الشقاء، يبصقون بالاحرى في وجه البائس (17: 6).
بائسة:
ان الالم الجسدي (7: 5) والاضطراب المتواصل (7: 4 و 14) يلدان الغم ويغذيانه (7: 11) وعندما يضاف اليه العزلة العاطفية والشعور بصمت الله ، والشعور المضني بان كل امانة تؤدي الى الفشل، فما من مكان عند ذاك في قلب الانسان الا "سأم الحياة" (10: 1 و 7: 15). فتفاقم سوء العيش يشل مبادرة المؤمن. الياس يسود ذاك الذي يسميه ايوب "ضيق الروح ومرارة النفس"(7: 11 و 10: 1). فالحياة ليست بعد ذلك سوى وهم وخيبة ويصبح البار المتالم مثلا للسخرية ، مثلا حيا لبطل الحياة (17: 4 و6). ولما كان الطريق قصيرا من بطل الحياة الى العدم، يحطم الياس كل قفزة فان الانسان وقد اصبح بلا هدف يفضل "الخنق او الموت"(7: 15) على حياة مشوهة حتى انها بلا معنى. فالافضل "لو لم يات الى الوجود او لو اعيد من الجوف الى القبر (10: 18 – 22). ام يبق له قليل من الانشراح (9: 27 و 10: 21).
مالها مثوى الاموات:
ان حدا لا يجتاز هو عقبة دون كل رغبة الانسان في حياة مستقلة في ذاتها. ان "عدد الشهور معين من الله وله اجل لا يتعداه"(14: 5). انه ميت منذ الان لانه لابدد له من الموت. وايوب يحس في نفسه منذ الان بعلامات الموت الذي يدنو: كل شئ فيه ينحل مثل ثوب اكله العث او خشب يفسده السوس (13: 28). فتوقع مثوى الاموات الذي ينتظره الذي يجعل ظلاما كل ما قد يكون نورا او بريقا في ارض الاحياء (10: 21..). من هناك لا يستطيع احد ان يخرج (30: 23) اين هم ؟(14: 10) وقد انغلق الانسان على نفسه الا المه (14: 20-22). عندما يموت الانسان يكون الاوان قد فات من كل شئ واذا لم "يذكره" الله (7: 1) فانه سيطلبه عبثا بعد الموت (7: 8 و 21).
ليست الحياة سوى مهزلة وباطل، وكلما عرف الانسان عطية الله هذه وجدها غير مجدية: هذا اذن اول طعن يطعنه ايوب في رحمة الله.
2- ولكن طعنه الاخر يذهب الى ابعد من ذلك ، لانه يحاول لن يفسر لا سكوت الله فحسب بل نياته.
سلوك الله: يلحق الله بايوب اثام اصابه (13: 26) ويكتب عليه احكاما مريرة ويتفقده (7: 18) ويشعر ايوب بانه مغلق عليه (7: 12) واطرافه بغير حركة في مقطرة (13: 27) لا بل ملقى في النفاية (19: 30).. والخليقة نفسها في يد الله وسيلة للتعذيب والسخرية: فالغيوم تخطف ايوب في مسيرة مميتة وتذيبه (30: 21 – 23). وهكذا فشقاء البار يعود بالعالم الى الزمان الاول، زمان مصارعة البحر الهائج وتنين المياه (7: 12)
ان اله يعلم: ويريد الام ايوب. وهذه القسوة من الله "تظهر ما في قلبه منذ الازل"(10: 13). ليس قصده الخلاق الا واجهة، لان نيته الاولى والاخيرة هي ان يسوق الى الموت (30: 23). يجب ان يرى الموت لا خاتمة الحياة بل غايتها.
التشكيك في قداسة الله:
يشك في قداسة الله ضمنيا عندما يتوهم ايوب ان "رقيبه" قد يكون غير مبال بالخطية (7: 20). وفي مكان اخر "يشرق على مشورة الاشرار"(10: 3) فيكافئ هكذا الاشرار بصداقته. ولكن طعن ايوب في خطابه الثالث يصبح جذريا علة وجه اعمق . فلربما الله عاجز عن اعلامه بمعصيته (10: 2 و 13: 23) فهو يبحث ويفتش عن اثمه (10: 6 و 14..).
التشكيك في حكمة الله:
كيف السبيل الى الفهم ان الله يقوم ببحث دقيق في انسان وهو يعلم حق المعرفة انه غير مذنب (10: 6) لكاذا يجب ان يبدو مذنبا مهما كلف الامر؟ لماذا لا يقول لاي شئ يخاصمه (10: 2) ؟ اتراه يخاف تكذيبا؟ ان الله لا يظهر بواعثه وهذا علامة عبودية لا تطاق اذ لا يعرف ماذا يعمل سيده ولا ماذا يريد. فليس له سوى ان يقوم بتخمينات تؤول به الى الياس: اما ان الله ينساه (10: 8) واما لا يرى فيه الا عبئا (7: 20) وقد مل صداقته. واما ان الله تغير (30: 21)
ولا معنةى ايضا لان يظهر الله قدرته (10: 16) بان يحكم على انسان ضعيف وهو فوق ذلك لا غبار عليه وان يضربه ويلطخه (9: 30). فكل من الحكمة وحسن المنفعة (10: 3) يقضي بان يقتنع الله الابقاء على ايوب، لا لان الموت في كل حال سيهتم بعد قليل بامره فحسب، بل لان الله، بازدرائه صنع يديه، يستنكر عمله ، ويجعل تعبه يذهب سدى (10: 8- 12). وما عدا ذلك فقد اراد الله ان يكون "رقيبا". لا يمكن ان يكون الله احب الانسان ثم يريد بعد ذلك ان يهدمه. ماذا يستفيد الانسان ان احبه الله الا اذا احبه للابد؟ او تكون الرحمة الالهية –الى حين – وهي تخفي قصد الموت (30: 23)؟
ان الله اذ يتصرف كما الناس (10: 3-7) يشاركهم عيوبهم. فما دامت عيناه ليست من لحم وايامه ليست معدودة فلماذا قلة الصبر هذه في عقابه بقسوة؟ ولماذا هذا التفاوت البشع بين القدرة التي يظهرها وسرعة عطب الانسان . بين تشدد القاضي المفرط و ضعف المتهم الخلقي (13: 25- 27)؟
التشكيك في بر الله:
ان ايوب يشعر انه سجين في عالم الذنب وكل مخرج مسدود في وجهه لن يستطيع تبرئة نفسه ولا رفع راسه (10: 15) ولا معنى لتوبته لان الله يحرص على ان يسد في وجهه طريق العودة (3: 23 و 19: 8).
تجاه هذا الظهور غير المتوقع لعداء الله وتجاه اخفاق بر ايوب نفسه فان جواب ايوب متشعب. ليس لديه سوى صورة لله ممزقة، واحاسيس متناقضة لذلك ردود فعله موسومة بمثل الازدواجية التي تظهرها له اوهامه في موقف الله.
ولكن ايوب لا يستسلم تماما، فهو يحلم بالعودة الى الحوار.