يعيش في برُّ وقداسة من يقدر كل شيء حق قدره ، فينظم حبه كيلا يحب مالا يجوز ، ويحب ما يحب ، فلا يحب كثيراً ما يلزم أن يحب قليلاً ولا يحب على السواء من وجب له الحب قليلاً أو كثيراً.
للحب بداية ونمو واكتمال
تأمل أولاً الحقيقة التالية: كل حب أو ميل في الإنسان يعود للشخص عينه وتلك هي حال الشيء الخارجي ، موضوع الحب.
إن كنت تحب الذهب فأنت تحب أولاً نفسك وتحب الذهب حباً بنفسك لأنك إن متَّ فلن يبقي من يملك الذهب.
الحب في الإنسان يبدأ في النفس وبخلاف ذلك فهو مستحيل ؛ ولا حاجة لأن يُحث الإنسان على محبة نفسه.
باشر بأن تحبَّ شيئاً ما: وسيكون أما أنت وأما ما هو أحط منك قدراً أو أسمي.
إن كنت تحب ما هو أحط منك فأحبة تمتعاً به وتفريجاً عنك ولا تحبه على سبيل الارتباط به.
أتحب الذهب؟ فلا ترتبط به: كم أنت أفضل منه!
الذهب تراب برَّاق ، أما أنت فمخلوق على صورة الله لتستنير بنوره. ومع أن الذهب من صنع الله فلم يصنعه على صورته بل صنعك أنت على صورته . وبالنتيجة ، بعد أن فضّلك على الذهب وجب عليك أن تحتقر الذهب.
أتَّخذ تلك الأشياء للاستعمال دون سواها ولا ترتبط بها برباط الحب كما على دبق . لا تجعل لك أعضاء تعذّبك وتؤلمك حين تريد أن تبترها.
تنزَّه عن الحب الذي تحب به ما هو أدني منك ،وباشر بمحبة ما هو مساو لك ، أي ذاتك ، ولو شئت لقمتَ به سريعاً.
لقد بينّ لك الربُ عينه ، في الإنجيل ، وأظهر لك ، بوضوح ، نظاماً إن أتبعته حصلت على الحب الحقيقي والمحبة الصحيحة حين قال:
{أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك وأن تحب قريبك كنفسك"متى37:22").
عليك إذن أن تحب الله فنفسك ثمّ قريبك كنفسك ، لأنك إن لم تستطع أن تحب نفسك فكيف تحب حقاً قريبك؟
يظن الكثيرون بأنهم يحبون نفوسهم حباً شرعياً حين يسلبون الناس أموالهم ويسكرون ويتعَّبدون لشهواتهم ويحصّلون كسباً حراماً عن طريق النميمة والخداع . فعلي أولئك أن يصغوا إلي الكتاب المقدس القائل:(من الحب الجور أبغض نفسيه"مزمور6:10").
إن أنت أحببت الجور أبغضت نفسك وما أحببتها ، فكيف تدّعي ، من ثمَّ ، حبّ الله والقريب!
وبالتالي إن شئت أن ترعي نظام المحبة الصحيحة فأصنع البرّ وكن رحيماً وأهرب من التطرّف وأبدأ عملاً بوصية الرب ، بالمحبة لأصدقائك ولأعدائك.
ومتى حاولت أن ترعاه من كل قلبك بإخلاص تمكنّت من الترقي في تلك الفضائل كمن يَرْقي على درج لتستحق أن تحبّ الله من كل قلبك ومن كل قوتك.
وبالنتيجة يبدو لي أن التحديد الموجز والصحيح للفضيلة هو: النظام في المحبة . ذاك ما تعلّمنا إياه الكنيسة نقلاً عن نشيد الأناشيد القائل:(نظّموا فيَّ المحبة)).
خذ القياس وأعط كل ذي حق حقه ، ولا تضع تحت ما هو فوق . أحبّ والديك إنما قدمّ الله على والديك في حبك.
تأمل في كلام أم المكابيين(يا بني لقد حبلت بكم وولدتكم إنما لم أستطع أن أكونّكم فاسمعوا الله وقدّموه علىّ ولا تتوانوا مخافة أن أبقي بدونكم) لقد أوصت فاتبّعوها.
تعليم الأم لبنيها هو عينة تعليم السيد المسيح إلي الشاب حين قال له:(أتبعني) تذكرَّ دائماً المحبة في وصيتها:(أحبّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل عقلك وأحب قريبك كنفسك)"متى37:22".
فكّر بهذا الكلام وتأمًّل به دوماً واحفظه وأعمل به وكمّله.
محبة الله هي الأولي بين الوصايا ومحبة القريب هي الأولي في نظام العمل.
إن الذي أمرك بهذه المحبة في وصيتيها لم يوصك بمحبة القريب أولاً ثم بمحبة القريب أولاً ثم بمحبة الله ، بل بمحبة الله أوصاك ثم بمحبة القريب.
أمّا فلأنك لا تري الله تحب القريب الذي تراه لتؤهل لأن تحب الله الذي لا تراه وإذ تحب قريبك تطهّر عينيك لتشاهد الله .
وفقاً لما قاله يوحنا بوضح:(إن قال أحد أني أحب الله وهو مبغضُّ لأخيه فهو كاذب لأنَّ من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يستطيع أن يحي الله الذي لا يراه"1يوحنا20:4").
أحببت قريبك وفكّر في ما يدفعك إليه تعرف إن كنت تحب الله.
ولكن لا يجوز أن تحب الخاطئ لكونه خاطئاً بل أن تحب الإنسان لكونه إنساناً حباً بالله ، أما الله فأحبّه حباً بذاته . وعليك أيضاً أن تحب الجميع على السواء ؛ ولكن بما أنك لا تستطيع أن تكون نافعاً للكل فمن الأفضل أن تهتمّ بمن ترتبط بهم ارتباطاً وثيقاً بحكم المكان والزمان وأسباب أخري مختلفة.
أقمْ درجات وأرق عليها ، وتقدَّم كل يوم في هذا الحب بالصلاة وعمل الخير حتى إذا ما أيدك ذاك الذي أوصاك بالمحبة ومنحك إياها ، غذاها فيك وأنماها حتى يكتمل عمله فيك.
بتلك المحبة أرضي الله آباؤنا القديسون وبطاركتنا وأنبياؤنا ورسلنا بفضلها جاهد الشهداء الحقيقيون ضد الشيطان فأراقوا دماءهم وانتصروا لأن المحبة لم تفتر قط فيهم ولا انقطعت.
بها يتقدم المؤمنون الصالحون كل يوم لأنهم لا يبتغون ملكوتاً زائلاً بل ملكوت السماوات يطلبون . ولا يرجون ميراثاً زمنياً بل أبدياً . ولا يتوقون إلي خيور عالمية بل إلي مشاهدة الله التي تفوق بطيبتها وعذوبتها كل وصف وتفكير.
ولكن حذار مما يظهر بمظهر الصلاح دون أن يكون له اصلُّ في المحبة.
للزهور أشواك: بعضها يبدو قاسياً ومهدداً ولكن سرعان ما يتحول تحت تأثير المحبة.
بكلمة واحدة أعطيت الوصية:(أحبَ وأعمل ما تشاء).
إن سكت فعن محبة أسكت وإن هتفت فعن محبة أهتف وإن اصلحت فعن محبة أصلح وإن رحمت فعن محبة أرحم وأجعل المحبة متأصلة فيك من الداخل لئلا يصدر عنك ما ليس خيراً.