لا ريب في إنك تريد أن تعيش سعيداً ، من من إنسان ألا ويسلَّم بهذا الرأي قبل الأعراب عنه تماماً . لكنك ، لن تكون سعيداً ، على ما أري ....
ثلاثة لا تجعلك سعيداً ... إن لم تحصل على ما تحبّ أيا كان . ولن تكون سعيداً إذا نلت ما تحب وكان هذا المحبوب مضراً ، وإذا لم تحبَّ ما لك وأن كان ممتازاً .
عذاب وضلال ومرض ... إن رغبت في ما ليست لك قدرة عليه ، تعذّبت ؛ وإن نلت ما لا يجوز لك أن تسعي إليه ، ضللت . وإن لم تسع إلي ما يجب السعي إليه ، مرضت: التعب يلازمك في سعيك إلي تلك الأمور ؛ ولا مكان للسعادة مع التعب .
الكل يبحث عن السعادة ... السعادة خير عظيم يسعى إليه الأشرار والأبرار على السوء . ولا عجب في أن يتحلَّى الأبرار بفضيلة تؤهلم إليها ؛ إنما الغرابة في أن يواظب الأشرار ، أحراراً ، على الشر سعياً وراء سعادتهم .
الأشرار .
الشهواني :ـ أن من أستسلم إلي شهواته ، ففسد في الدعارة وسعى من خلالها إلي سعادته يعتبر نفسه شقياً إذاً لم يشبع رغباته منها ، وإذا حصل عليها ، فلن يتردد في المباهاة بما وصل إليه من سعادة .
البخيل :ـ إن الذي يتأكله البخل فيكدس الآن الثروات ، سعياً وراء السعادة والذي يتوق إلي سفك دماء أعدائه ، والذي يطمح إلي الاستئثار بالسلطة ، والذي يروي غليل شراسته من مصائب الآخرين هؤلاء كلهم يبحثون من خلال جرائمهم عن سعادتهم.
إن هؤلاء الضالين الباحثين عن سعادة كاذبة من خلال شقاء حقيقي يهتدون إلي الطريق الصالح إذا سمعوا الصوت الإلهي القائل :ـ (طوبي للأذكياء في الطريق للسائرين في شريعة الرب)"مز1:118" وكأني بالله يقول لهم (أين تذهبون ؟ تهلكون ولا تدرون ، ليس هذا هو الطريق إلي الغاية التي تنشدون ، رغبتكم في السعادة أكيده ، إنما الطرق التي تسلكونها ، محفوفة بالمخاطر ، وتؤدي بكم إلي شقاء ما بعده شقاء لا تعتمدوا تلك السبل الشريرة بحثاً عن ذاك الخير العظيم . أمات إذا أردتم الحصول عليه فتعالوا من هنا وسيروا من هناك.
تخلَّوا عن شر السبيل العاطل يا من لا تستطيعون أن تتخلَّوا عن رغبتكم في السعادة .
باطلاً تتعبون ، ساعين إلي ما سوف يؤثمكم ، لدي حصولكم عليه . إن الذين يتدنسون في ضلالهم سائرين في شر هذا العالم ، ليسوا سعداء إنما (طوبي للأذكياء في الطريق ، للسائرين في شريعة الرب ، وطوبي للذين يرعون شهاداته ويلتمسونه بكل قلوبهم)"مز1:118-2".
هؤلاء يسعدون بالرجاء وليس بالواقع ، نظير (المضطهدين على البر "متى10:5") وليسوا سعداء بالعذابات التي يقاسونها الآن بل لأنهم يعلمون (إن لهم ملكوت السماوات).
{طوبي للجياع والعطاش إلي البر "متى6:5"). لا ، لأنهم يشبعون ويرتوون ، بل ، ومن أجل الباقي (لأنهم سوف يشبعون).
{وطوبي للباكين} لا ، لأنهم يبكون ، بل من أجل الباقي لأنهم {يُعزَّون} ثم طوبي للذين يتعمقَّون في تلك الشهادات ويرعونها بكل قلوبهم ، لا لأنهم يبحثون ويتعمقون بل لأنهم سوف يجدون ما يطلبون. إن الباحثَ ، جاداً ، لا يتهاون في سعيه ، إن كنت سعيداً في رجائك فلابد وأن تكون باراً برجائك.
إن سلكت في شريعة الرب وحفظت وصاياه وبحثت عنه ، بكليتك ، في هذه الحياة ، ثم قلت في نفسك : لست خاطئاً فأنك تخدع نفسك وليست بالحقيقة فيك.
وبالتالي فأنت سعيد إن شئت أن تكون باراً . أطلب ما تسعي إليه لتكون سعيداً . لو كنت سعيداً فهل تصبح الآن أفضل من يوم كنت فيه تاعساً؟ بيد أن ما هو دنيء لا يصيّرك أفضل.
إنسان أنت ، وكل ما تبتغيه إسعاداً لك هو أدني منك قدراً ؛ سواء أكان ذهباً أم فضة أم سواهما من الخيور المادية التي تتوق إليها وتريد التمتع بها : هذه كلها خيور دونك قدراً.
أنت حقاً أفضلُ منها وأحسن : تريد أن تكون أفضل مما أنت عليه فتتمني السعادة بينما أنت تعيس وتريد أن تكون أفضل وتسعي إلي غايتك بسبل أدني منك . أن كل ما تسعي إليه فوق هذه الأرض هو دونك قدراً .
كيف تكون أفضل ؟ أقبل مشورة مخلصة : إن أردت أن تكون أفضل فاسعَ إلي ما هو أرفع منك لكي نتمكن من أن تصير أفضل . وارتفع إلي خالقك : ولا تيأس قائلاً أنه ، بعيد عني جداً . يصعب عليك أن تحوز الذهب الذي تبتغيه وقد لا تتمكن منه ؛ أما إن طلبت خالقك فسوف تحصل عليه ، وهو الذي قد جاء إليك قبل أن تطلبه ، وحين كنت مائلاً عنه بإرادتك ، كان يدعوك ويوم خفت منه ، واعترفت ، أساك.
إن الله الذي أعطاك كل شيء حتى الوجود ، الله الذي يشرق شمسه على الأشرار وعليك أيضاً ، الله الذي يمطر غيثه ويعطي الثمر ويفجّر الينابيع والحياة والخلاص ويمنح الكثيرين تعازيه يحتفظ لك دون سواك بكل شيء.
الله يحتفظ لك بذاته .. وبم يحتفظ لك ، إن لم يكن بذاته ؟ سلْ ما هو أفضل منهما؟ إن استطعت الله يحتفظ بذاته لك.
يا طماع ، لم تتوق إلي السماء والأرض ؟ أو ليس خالقهما أفضل منهما؟ هو عينه لك ، وهو الواجب أن يكون لك.
أطلب الله يَكُنْ لك فتصبح سعيداً ، وحده الخير الذي يهبك السعادة ، والخير الذي يصيرك أفضل من ذاتك . أحبَّه وخُذه ، ومتى أردته كان لك بالمجان.
إذا أمتلكت ذهباً ، فكن ربه ، ولا تكن عبده ، طالما أن الله الذي صنعكما ، سلّطك عليه ؛ لقد صنع الذهب لخدمتك ، أما أنت فقد صنعك على صورته . أقنع بالكفاف دون سواه وألا ثقل عليك ما زاد عنه ولم ينفعك . أن خيوراً كهذه تثقل عليك ولا تشّرفك . لا تقتن المال بل اعترف بفقرك ؛ وإذا كنت ذا ثروة طائلة فأعلم أن غناك ليس بها ! بل أطلب سواها وأعلم أن الثروات الحقيقية لا تزيد أصحابها جشعاً.
كلما ازددت غني من تلك الخيور كلما زدت شوقاً وتحرقّاً إلي الاستزادة منها . وما هي تلك الخيرات التي ، كلما كثرت بين أيدينا كلما زدنا حاجة إليها؟ أن من يحظى بها يزداد جشعاً لأنها لا تروي له غليلاً .
بعض الناس يكتفي بالربح القليل والموارد الضيئله حتى إذا أصبح غنياً ، ما عاد يقنع بالقليل.
وتظن الناس قانعين بما لهم ، إنما أنت على خطأ . أن الثروات الطائلة لا تسد قعر الجشع بل توسعه ولا ترويه بل تزيده عطشاً ، فإذا بهم يرفضون الكأس لأنهم إلي النهر عطاش.
أختر الحياة الأخرى وأحب الله واحتقر الزمنيات وأشحْ بوجهك عن خيور الأرض طالما أنت مسافر عليها ، ولن تبقي فيها إلي الأبد.
أعدَّ ذاتك للحياة الآتية :ـ إن ملكت شيئاً فاصنع منه خيراً ، وإن لم يكن لك شيء فلا تتحرَّق إليه شوقاً . سرْ وابعث بما تدَّخر حيث يمكنك أن تطمئن إليه أكثر .
إنك تسمع كل يوم هذا الكلام : لنرفع قلوبنا إلي العلى ، وكأني بك تسمع عكسه فيغور قلبك في التراب.
سر أيها المسافر ، إن كان لك شيء ، تصدَّقْ به ؛ وإلا فلا تتذمَّرْ على الله ، أصغ إلي أيها البائس: وماذا ينقصك والله معك ؟ أصغ إلي أيها الغني : أي شيء لك والله ليس معك ؟